في أحد أزقة خان يونس المزدحمة، وبالقرب من مركز إيواء مكتظ بالأرواح المرهقة، ينهمك الطفل عبد الرحمن أبو جامع في تشغيل آلة معدنية يدوية لطحن الحمص. يدور الحديد تحت يديه الصغيرة، في حركة دائرية تلتهم جهده وقوته. لم يكن عبد الرحمن يتخيل يومًا أن تتحول حياته من الدراسة وارتداء ملابس العيد إلى السعي وراء لقمة جافة يسد بها جوع عائلته.
معاناة الأطفال
يقول عبد الرحمن بصوت خافت يختلط بتنهيدة عميقة: “كنا نعيش ونضحك، نلعب في الشوارع، أما الآن… لا نخرج إلا بحثًا عن الطعام”. يقف أمام آلة الفرم وقد التصقت ملابسه بالعرق والتراب، يروي أن المجاعة جعلته يطرق باب العمل رغم صغر سنه. تحضير الفلافل بات مهنته اليومية، بديلاً عن الحصص الدراسية، بعدما تحوّلت مدارسهم إلى ملاجئ تحتمي فيها الأمهات وأطفالهن من الموت.
على مقربة منه، تمشي الطفلة حبيبة ذات الثمانية أعوام في خطوات متعثرة، وهي تحمل صندوقًا صغيرًا مليئًا بالبسكويت. تقف قرب مركز الإيواء عارضة ما تبيعه على المارة. لم يعد في يدها دفتر مدرسي ولا قلم ملوّن، بل بضاعة تأمل أن توفر لعائلتها القليل من الدقيق. تقول حبيبة بنبرة ناضجة تجاوزت عمرها: “أريد فقط أن نأكل… ونعيش”. تحلم بعودة الأيام التي كانت تلعب فيها مع صديقاتها، قبل أن تتحول طفولتها إلى ذكرى.
رحلة البحث عن الطعام
نور الشوا، ذات الأحد عشر ربيعًا، تُدفع يوميًا إلى مشفى ناصر، ليس لتلقي العلاج، بل لحمل عبوات مياه ثقيلة على كرسي متحرك. دفعها النزوح وغياب شبكات المياه إلى حمل مسؤولية لا تليق بسنها. وجهها البريء المتغضّن بالشمس يروي قصة أمةٍ تمضي على جراحها، بينما تحلم هي فقط بشربة ماء باردة، ودفتر رسم لم تلونه منذ أشهر.
تالا الشنباري، الطفلة التي وقفت على بسطة صغيرة في السوق تبيع بضع مواد غذائية، تتحدث بنبرة متعبة: “كنا نعيش حياة حلوة، الآن نبيع لنأكل”. تغطي رأسها بمنديل بسيط وتحاول أن تبتسم، لكنها تعجز عن إخفاء الحزن الغائر في عينيها. تتحدث عن الرحيل، عن بيوتهم في شمال القطاع، عن أقاربهم الذين لم يروهم منذ شهور. تالا تعيش اللحظة بحذر، لأن الموت قد يمر كل لحظة من فوقها أو بجوارها.
تحت لهيب الشمس، يفترش الطفل يامن القرا الأرض ببعض الملابس القديمة. يبيعها ليشتري دقيقًا لعائلته. حياته، التي كان يفترض أن تدور حول الحصص والكتب واللعب، أصبحت تدور حول حسابات الربح والخسارة، والركض وراء لقمة تحفظ لأهله البقاء. يجلس على الرصيف، وعيناه تراقبان المارة بشغف، أملاً في بيع قطعة واحدة على الأقل.
الطفولة المسروقة
أما منة الشنباري، ذات الأربعة عشر عامًا، فقد تخلّت عن اللعب والدفاتر، لتجوب السوق منادية: “يلا الخبز”. تعمل يومها بالكامل، تصرخ، تساوم، تُرهق، كل ذلك من أجل أن تحمل معها رغيفًا يسد رمق أسرتها التي تكافح الموت والجوع. تقول بصوتها المرتجف: “ما بدنا شي غير نعيش، بدنا نرجع نضحك شوي”.
كل طفل من هؤلاء يكتب فصلًا جديدًا من المأساة الفلسطينية، بدمه وعرقه وطفولته المسروقة. هم لا يبحثون عن رفاهية، بل عن حق بسيط في الحياة، عن طعام، عن مأوى، عن قسطٍ من الطفولة المسلوبة تحت أنقاض غزة. وكل يوم يمر، يُنقش في وجوههم عمرٌ لم يعشوه كما ينبغي، لكنه سيبقى شاهدًا على صمود شعب، تقوده أيادٍ صغيرة تحمل الحياة في زمن الموت.