الحديث عن العثور على أقراص مخدرة شديدة الخطورة داخل أكياس الطحين التي توزعها مؤسسة “غزة الإنسانية”، المدعومة أميركياً وإسرائيلياً، يمثل تجاوزاً خطيراً لكل المعايير الأخلاقية والإنسانية، ويُعيد تسليط الضوء على الوجه القبيح لتسييس العمل الإغاثي وتحويله من وسيلة إنقاذ إلى أداة حرب ضد المدنيين. هذه الحادثة، التي وثّقتها إفادات وشهادات حية، تُفجر فضيحة لا يمكن التعامل معها كحادث عرضي أو “خطأ لوجستي”، بل تُشير إلى نمط سلوك مدروس يستهدف النسيج المجتمعي الفلسطيني في لحظة هي الأشد ضعفاً من الناحية الصحية والنفسية والاجتماعية.
مخدرات داخل المساعدات
وجود عقار خطير مثل “أوكسيكودون” – بتركيز قاتل يصل إلى 80 ملغم – داخل أكياس الطحين، لا يمكن تفسيره إلا كجريمة مزدوجة: فهي لا تستهدف فقط قتل الأفراد عبر السم البطيء، بل تسعى أيضًا إلى إضعاف الجسد الجماعي للمجتمع الفلسطيني عبر نشر الإدمان وتخريب الاستقرار الذهني والانضباط النفسي في بيئة منكوبة أصلًا. وفي ظل انهيار النظام الصحي، وغياب الرقابة، وانشغال الأهالي بتأمين قوت يومهم، يصبح تسلل هذه المواد عبر المساعدات أحد أخطر أساليب الإبادة النفسية والاجتماعية.
إسرائيل، التي سبق واتُهمت باستخدام الغذاء كسلاح، تتهمها أصوات فلسطينية اليوم بتحويل “المساعدات” إلى ما يشبه “قنابل مخدرة مغلفة بالدقيق”، حيث الموت يأتي بصمت، لا عبر القصف، بل عبر التخدير، وفقدان الإدراك، والانهيار الصحي التدريجي. الأمر لا يتعلق فقط بتهديد الأرواح، بل أيضًا بمحاولة منهجية لكسر الإرادة الجماعية، وتدمير القدرة على المقاومة والصمود، عبر خلق حالة من الانهيار المعنوي الكامل.
اختيار طريقة الموت
مؤسسة “غزة الإنسانية”، التي تُقدَّم إعلاميًا كمبادرة إغاثية، أصبحت في نظر الفلسطينيين “واجهة استعمارية ناعمة” تُستخدم لتبييض جرائم الحرب من جهة، وتنفيذ مشروع ترويض شعبي من جهة أخرى، عبر المقايضة بين الجوع والخضوع، أو بين الطحين المسموم وطلقة القناص. فالمواطن الغزي يُجبر في هذه المعادلة العبثية على أن يختار بين الموت الفوري برصاصة، أو الموت التدريجي عبر أقراص مدمجة في الغذاء، في مشهد يُذكّر بممارسات استعمارية تاريخية لم تعد مقبولة في عالم اليوم.
التعامل الدولي مع هذه الفضيحة لا يزال صامتًا إلى حد التواطؤ. لا موقف أممي، ولا تحقيق مستقل، ولا مساءلة شفافة حول مصدر هذه المواد، وكيفية دخولها، ومن سمح بمرورها، ومن يتحمل مسؤولية العبث بالمواد الغذائية الموجهة لأناس يعيشون تحت الحصار والقصف. وهو ما يطرح سؤالًا أخلاقيًا حادًا: إذا كان الغذاء يُحوَّل إلى أداة إبادة، ولا أحد يجرؤ على المحاسبة، فإلى أين يمكن أن تصل همجية أدوات الحرب المعاصرة؟
جريمة ضد القانون الإنساني
توظيف المخدرات في سياق حرب مفتوحة، وفي بيئة يعيش سكانها على حافة المجاعة، ليس فقط جريمة ضد القانون الإنساني، بل هو انحدار غير مسبوق في مفهوم “العدو” نفسه، حيث لم يعد يُواجه بالسلاح فحسب، بل عبر ضرب أساسه الأخلاقي والاجتماعي والصحي. وما هذه الواقعة إلا إعلان فجّ أن الاحتلال مستعد لاستخدام كل الوسائل – من التجويع، إلى القنص، إلى الإدمان – لتفكيك أي احتمال لنهضة أو استقرار فلسطيني.
يبقى السؤال معلقًا: إلى متى سيبقى الصمت الدولي شريكًا في هذه الجرائم؟ وهل ستُعامل فضيحة الطحين المسموم كأدلة على الإبادة المتكاملة، أم تُطوى كما طُويت آلاف الجرائم من قبلها؟ الجريمة اليوم لم تعد تقتل بالجملة فقط، بل تزرع الموت في الخبز ذاته، وتوزعه بغطاء “إنساني”.