تتكرر مشاهد المجازر في قطاع غزة، وتحديدًا في جنوبه، حيث لم تعد أماكن تجمع المساعدات الغذائية تشكل ملاذًا آمناً للفلسطينيين، بل تحولت إلى نقاط استهداف مباشر من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي. أحدث هذه الجرائم وقع صباح الثلاثاء قرب دوار التحلية جنوب شرق خان يونس، حينما قصفت طائرات الاحتلال تجمعًا لآلاف المدنيين الذين كانوا ينتظرون شاحنات الإغاثة في منطقة تعيش واحدة من أسوأ موجات الجوع في تاريخها الحديث.
مشاهد مأساوية
بحسب الأرقام المتوفرة، فإن 51 شهيدًا على الأقل وأكثر من 200 جريح سقطوا في هذا القصف، بينهم 20 إصابة حرجة، وهو ما يكشف ليس فقط حجم العنف المستخدم، بل أيضًا طبيعة الاستهداف الذي كان مباشرًا ومركزًا ضد مدنيين عزّل، بينهم أطفال ونساء وكبار سن. لم يكن المشهد استثنائياً في قسوته فقط، بل أيضاً في بدائيته، حيث جرى نقل الجرحى والشهداء باستخدام الدراجات النارية والعربات التي تجرها الحيوانات، في ظل انهيار تام للمنظومة الطبية والخدمية.
السياق الأوسع الذي تأتي فيه هذه المجازر لا يمكن فصله عن السياسة المتبعة منذ إعلان “الآلية الجديدة” التي أطلقتها إسرائيل بشأن توزيع المساعدات في القطاع. فمنذ بدء تنفيذ هذه الآلية، سقط نحو 350 شهيدًا وأصيب ما يقرب من 3000 آخرين، معظمهم في ظروف مشابهة، ما يثير تساؤلات جدية حول طبيعة هذه الإجراءات ومقاصدها الحقيقية.
سياسة ممنهجة لضرب مقومات الحياة
الادعاء الإسرائيلي بأن هذه الآلية تهدف إلى تسهيل إيصال المساعدات يقابله واقع ميداني مغاير تمامًا، حيث يتم جمع الحشود دون ضمانات للحماية، ثم يُترك المدنيون عرضة لهجمات دقيقة تشنها طائرات الاحتلال. الأمر يتجاوز حدود “الأخطاء” أو “الأضرار الجانبية”، ويدخل في إطار سياسة ممنهجة لضرب ما تبقى من مقومات الحياة في القطاع، وتجويع السكان بشكل متعمد، في انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني.
استهداف المدنيين أثناء تلقي المساعدات يحمل في طياته بعدًا استراتيجياً يتصل بمحاولة تحطيم الإرادة الجماعية للفلسطينيين، من خلال ضرب نقطة الالتقاء الوحيدة المتبقية لهم: الغذاء كوسيلة للبقاء. هذه المجازر لا تستهدف فقط الأجساد، بل تسعى إلى تفكيك النسيج المجتمعي وخلق حالة من الرعب والتفكك، تجعل من السعي وراء لقمة العيش مغامرة يومية محفوفة بالموت.
تحويل الإغاثة الإنسانية إلى مصيدة موت
المجتمع الدولي، من جهته، يواصل إصدار بيانات القلق والتحذير، دون اتخاذ إجراءات رادعة حقيقية توقف آلة القتل هذه. ومع استمرار الحصار وغياب ممرات إنسانية آمنة، يبدو أن قطاع غزة يُقاد نحو كارثة إنسانية مركبة: حرب، ومجاعة، ودمار شامل، وسط صمت عالمي يضفي على هذه المجازر شرعية غير معلنة.
استهداف المدنيين خلال تسلمهم للمساعدات ليس عارضًا أو خارجًا عن السياق، بل هو جزء من تكتيك واضح يقوم على تحويل الإغاثة الإنسانية إلى مصيدة موت. وهي سياسة تُحاك بعناية لضمان استمرار معاناة غزة كوسيلة ضغط، دون أي اعتبار لقيم القانون الدولي أو المبادئ الإنسانية.