في ضوء الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال على طولكرم ومخيم نور شمس، لم يعد الحديث عن التضييق أو الاعتقالات مجرد تقارير صحفية، بل أصبح كل بيت في المدينة شاهداً حيّاً على رواية ألم، وكل ساكن فيها جزءاً من قصة نفيٍ جديدة تتكرر بتفاصيل أشد قسوة مما عاشه الأجداد قبل النكبة.
اقتحام المنازل
في حي ظهرة اكبارية، كان صوت اقتحام أبواب منزل عائلة أبو حيش صاخباً بما يكفي ليوقظ الحيّ بأكمله. يقول عاصم أبو حيش: “كنت أعتقد أني أعيش أسوأ كوابيسي، لكن حين رأيت جنود الاحتلال يبعثرون أثاث البيت، ويسرقون المال والشيكات من الخزانة أمام أطفالي، شعرت أن هذا لم يكن كابوساً… بل واقع لا يرحم.”
لم يكتفِ الجنود بالسرقة، بل اعتقلوا الشاب أمير عوفي من أحد المنازل المجاورة، وتركوا خلفهم رعباً يسكن تفاصيل الجدران المهشّمة.
أما في مخيم نور شمس، فالمشهد اليومي أصبح هو رائحة الغبار، وأصوات الانفجارات، والبيوت التي تنهار أمام أعين سكانها. تحكي أم أحمد، وهي أم لأربعة أطفال، كيف أبلغوها أن منزلها سيُهدم، ومنحوها ساعات ثلاث فقط لتُخلي المكان الذي بنته حجراً حجراً مع زوجها الراحل. “لم أجد متسعاً لجمع شيء، أخذت ألبوم صور قديم وقطعة ملابس لأطفالي، وخرجت تحت تهديد السلاح. بيتي الذي احتضن أفراحي وأحزاني… لم يعد له أثر.”
اقتلاع للحياة في مدن الضفة
في شارع نابلس، والذي يفترض أن يكون شرياناً بين المخيمين، تحول الطريق إلى رمز للانقطاع، حيث تعيق السواتر الترابية حركة الحياة، وتقسّم العائلات وتقطع الرزق. يصف المواطن فادي الزغل شعوره حين مُنع من دخول بيته رغم امتلاكه تصريحاً بالإخلاء:
“كنت على بعد خطوات من منزلي، لكنهم قالوا: انتهى الوقت. رأيت بيتي من بعيد، ولم أستطع أن ألمس جدرانه، أو أودعه. هذا القهر لا يُنسى.”
ليس الأمر مجرد هدم للمباني، بل هو اقتلاع للحياة، واقتلاع للذكريات. 58 مبنى مهدداً بالهدم في طولكرم وحدها، و48 أخرى في نور شمس، تخفي خلفها وجوهاً، وأسماءً، وأحلاماً كان أصحابها يعتقدون أنهم بأمان.
رائد من ضاحية شويكة، كان قد استثمر سنوات عمره في بناء بيته قطعة قطعة، يقول: “لم أتخيل أني سأرى اليوم الذي ينهار فيه كل شيء أمامي. ليس بيتي فقط، بل كرامتي… كياني. لقد سلبونا حتى الحق في الحزن، لم نعد نملك ترف البكاء.”
وثائق صمود حيّة
الاحتلال لا يكتفي بتجريف الأرض، بل يجرّف التاريخ والجغرافيا والعلاقات الإنسانية. يسكن الجنود اليوم في منازل أُجبر أصحابها على مغادرتها، حولوا البيوت إلى ثكنات، واستخدموا الشرفات كأبراج مراقبة، والغرف كمخازن للذخيرة، وكأن سكان المخيم لم يكونوا يوماً هنا.
لكن رغم الألم، ثمة ما لا يُهدّ: الروح. تقول طفلة صغيرة هجّرتها الحرب من بيتها: “بيتي راح.. بس أنا راح أبني واحد جديد، أحلى منه”. كلمات بسيطة، لكنها تفضح وهم الاحتلال. لأن من يبني من جديد، لن يُهزم. ومن يتذكر بيته حجراً حجراً، لن ينسى حقه يوماً.
روايات أهالي طولكرم ونور شمس اليوم ليست فقط شهادات على الجريمة، بل هي وثائق صمود حيّة، تقول للعالم إن هذا الشعب لم يُطرد مرة واحدة في النكبة، بل يُطرد كل يوم.. ومع كل طرد، يزداد تمسكه بما له. هذه ليست نهاية حكاية، بل بداية فصل جديد، يُكتب بالدم والصبر والذاكرة الحية.