في تطور سياسي لافت، وجّه الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسالة مباشرة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبّر فيها عن مواقف غير مسبوقة تهدف إلى فتح أفق سياسي جديد للقضية الفلسطينية، في ظل انسداد المسارات التقليدية وتفاقم المأساة في قطاع غزة. ويأتي هذا التحرك في سياق التحضير لمؤتمر أممي بشأن حل الدولتين، تنظمه فرنسا بين 17 و21 يونيو في نيويورك، وهو مسعى فرنسي واضح لمحاولة إعادة إحياء المسار السياسي الفلسطيني – الإسرائيلي بعد انهياره شبه الكامل.
رسالة عباس تعكس، في جوهرها، محاولة لإنقاذ غزة من المصير الذي آلت إليه بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وذلك عبر استعادة زمام المبادرة السياسية، والتأسيس لمرحلة ما بعد «حماس». فالرئيس الفلسطيني أعرب صراحة عن تأييده لـ«إلقاء حماس للسلاح» و«وقف حكمها لقطاع غزة»، وهو موقف يشكل تحوّلاً في الخطاب السياسي الرسمي، ويمهد عملياً لمعادلة جديدة تقوم على إنهاء الانقسام الداخلي كشرط مسبق لإعادة إعمار غزة وإدماجها في الدولة الفلسطينية المنشودة.
حماس تتحمل المسؤولية
هذا الطرح يُظهر أن عباس يسعى إلى تجاوز مأزق ازدواجية السلطة، عبر تقديم تصور واضح لمستقبل الحكم في غزة، يكون مبنياً على نزع سلاح الفصائل، وعودة السلطة الفلسطينية بصفتها ممثلاً شرعياً، في إطار ترتيبات أمنية بإشراف دولي وعربي. وتأكيده على استعداده لدعوة «قوات عربية ودولية للانتشار» في غزة يؤكد سعيه لخلق بيئة مستقرة وآمنة، تمنع تكرار سيناريوهات الفوضى أو سيطرة جماعات مسلحة خارج إطار الدولة، بما يشكل استجابة للتحديات التي تعوق أي مشروع وطني جامع.
في موازاة ذلك، حرص عباس على توجيه انتقاد مباشر لحركة حماس، محملاً إياها جزءاً من المسؤولية عن مأساة غزة، من خلال إدانته لما جرى في السابع من أكتوبر 2023، ودعوته للإفراج الفوري عن جميع الرهائن. بهذا الموقف، يحاول الرئيس الفلسطيني إعادة تأطير النقاش الدولي حول غزة، بحيث لا تُختزل المأساة في القصف والدمار فقط، بل يُنظر أيضاً إلى جذور الأزمة المرتبطة بواقع الانقسام الفلسطيني.
تنظيم انتخابات خلال عام بإشراف دولي
الرسالة لم تخلُ من إشارات تهدف إلى كسب دعم المجتمع الدولي، إذ تعهد عباس بعدم عسكرة الدولة الفلسطينية المستقبلية، واستعداده للانخراط في ترتيبات أمنية «تفيد جميع الأطراف». كما أبدى التزاماً بإجراء إصلاحات داخل السلطة الفلسطينية وتنظيم انتخابات خلال عام بإشراف دولي، في محاولة واضحة لاستعادة الشرعية الشعبية وتحصين الموقف التفاوضي الفلسطيني أمام الأطراف الدولية والإقليمية.
هذا الخطاب يتماشى مع الموقف الفرنسي الذي عبّر عنه الرئيس ماكرون، والذي يربط الاعتراف بدولة فلسطينية بجملة من الشروط، منها نزع سلاح «حماس» وضمان عدم مشاركتها في الحكم. وبالتالي، فإن عباس يحاول، من خلال تبني هذه المواقف، تقديم نفسه كشريك موثوق في مشروع الدولة، بما يضعف حجج الحكومة الإسرائيلية الرافضة لحل الدولتين.
إعادة إعمار غزة
غير أن هذا التوجه يواجه تحديات داخلية كبيرة، أبرزها غياب الإجماع الوطني الفلسطيني، وانعدام الثقة المتبادلة بين حركتي «فتح» و«حماس»، التي يرى كثيرون أنها فقدت الكثير من رصيدها السياسي والشعبي. ومع ذلك، فإن التحرك السياسي الأخير لعباس يُقرأ كخطوة استباقية لتفادي فراغ سياسي قد تستغله أطراف إقليمية أو داخلية لفرض حلول جزئية تُكرّس واقع الانقسام، بدل تجاوزه.
يمكن القول إن عباس يحاول انتهاز اللحظة الدولية التي تولي اهتماماً متزايداً بالقضية الفلسطينية بعد سنوات من التهميش، ليقدّم رؤية متكاملة تعيد الاعتبار لمشروع الدولة الفلسطينية الواحدة ذات السيادة، وتفتح الباب أمام إعادة إعمار غزة ضمن إطار وطني جامع، لا يُقصي أحداً ولا يُبقي على واقع الانقسام. غير أن نجاح هذه الرؤية مرهون بقدرة القيادة الفلسطينية على توحيد الصف، وإقناع المجتمع الدولي بضرورة الضغط الفعلي على إسرائيل لوقف سياساتها الاستيطانية والعسكرية، والقبول بحل سياسي قائم على قرارات الشرعية الدولية.