في وقت يسود فيه مناخ دولي حذر حيال إعادة تأهيل النظام السوري، برزت أحداث العنف التي شهدها الساحل السوري في السادس من مارس كعامل مفاجئ أربك حسابات بروكسل. اللاذقية، طرطوس، وبانياس، والتي يفترض أن تكون مناطق محصنة للنظام، تحولت فجأة إلى مسرح لأعمال عنف دامية خلّفت عشرات القتلى، وأعادت إلى الواجهة سؤال: من يملك السيطرة الفعلية في مناطق النظام؟
اللافت أن هذه التطورات جاءت على أعتاب تحرك أوروبي لرفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية عن دمشق، ما اضطر الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم موقفه، ولكن هذه المرة من زاوية مختلفة: مساءلة الأفراد بدلًا من معاقبة الدولة.
بروكسل تتحرك: قوائم عقوبات بدلًا من إجراءات جماعية
بحسب تقارير نقلها مراسل قناة “العربية/الحدث”، فإن الاتحاد الأوروبي يعكف حاليًا على إعداد قائمة جديدة من العقوبات، تستهدف شخصيات محددة يشتبه بتورطها المباشر في أعمال العنف بالساحل السوري. الخطوة الأوروبية هذه، لا تعكس فقط امتعاضًا من استخدام العنف المفرط، بل تكشف أيضًا تحولًا في المقاربة الأوروبية من “عقوبات على الدولة” إلى “عقوبات موجهة” تركز على تحميل الأفراد المسؤولية.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لم يعد مستعدًا لتحمّل كلفة الاستمرار بعقوبات شاملة تطال الاقتصاد السوري بأكمله، خاصة في ظل تصاعد الأصوات الداعية لرفع القيود عن التعاملات الإنسانية والتنموية. غير أن أوروبا أيضًا ليست بوارد التساهل مع انتهاكات جماعية تجري على مرأى من النظام أو بتغاضٍ منه، لا سيما في مناطق يُفترض أنها تحت السيطرة المركزية.
نتائج التحقيقات الداخلية: اختبار لمصداقية النظام الجديد
بحسب مصادر دبلوماسية غربية، فإن قرار رفع بعض العقوبات عن سوريا سيصدر بين الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع المقبل، لكنه سيكون مشروطًا. الأوروبيون يترقبون نتائج التحقيقات التي أعلنت عنها الحكومة السورية، خاصةً فيما يتعلق بتحديد المسؤوليات وإجراءات المحاسبة التي ستتخذها السلطات.
في هذا السياق، تبدو الحكومة السورية أمام تحدّ مزدوج: من جهة، طمأنة الحلفاء الدوليين بإمكانية ضبط الأمن ومحاسبة المتورطين، ومن جهة أخرى، التماهي مع الرغبة الأوروبية بإحداث تغيير في نمط الحكم، ولو من باب شكلي يمرّ عبر محاسبة بعض المسؤولين الأمنيين المحليين أو قادة الميليشيات.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تملك الحكومة القدرة والرغبة في اتخاذ إجراءات فعلية، أم أنها ستكتفي بإجراءات شكلية تقيها العقوبات دون المساس بالبنية العميقة للسلطة الأمنية في الساحل؟
أوروبا تضع دمشق تحت المجهر
في العمق، لا تتعلق العقوبات المنتظرة فقط بما جرى في مارس الماضي، وإنما بما يرمز إليه ما حدث. فالاشتباكات في معقل النظام التاريخي تسلط الضوء على تصدعات داخلية وصراعات بين أجنحة مختلفة من السلطة أو الميليشيات المحلية، ما يقلق الأوروبيين من هشاشة الاستقرار الذي يعرضونه كأحد مبررات الانفتاح على دمشق.
من هنا، يمكن القول إن الأيام المقبلة ستكون حاسمة، ليس فقط في رسم مستقبل العلاقة بين دمشق وبروكسل، بل في اختبار ما إذا كانت الدولة السورية قادرة على الانتقال من منطق القوة المطلقة إلى منطق الدولة القانونية والمؤسسات.
خاتمة: منطق العقوبات الموجهة كمدخل لتطبيع مشروط
ما يحدث الآن لا يشبه بأي حال العقوبات الجماعية التي فرضت على سوريا منذ 2011. نحن أمام مقاربة جديدة: تطبيع مشروط، ورقابة دولية ميدانية على أداء الدولة، واختبار مباشر للنية السياسية في التغيير، ولو بالحدود الدنيا.
فإن أحسنت دمشق التصرف، قد تُفتح الأبواب تدريجيًا نحو فك العزلة الاقتصادية. أما إذا ثبت أن العنف لا يزال أداة إدارة داخلية، فستظل بوابات أوروبا موصدة، ولو أن بعض الأصوات بدأت تُهمس بضرورة الواقعية السياسية في التعامل مع ما تبقى من الدولة السورية.