في خطوة توصف بأنها مفصلية على طريق إعادة إدماج سوريا في الاقتصاد العالمي، أعلن محافظ مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، أن البلاد ستُعاد ربطها بشبكة “سويفت” الدولية للمدفوعات خلال أسابيع، لتفتح بذلك بابًا واسعًا أمام التحويلات والاستثمارات بعد أكثر من عقد من العزلة والعقوبات الدولية.
وقال الحصرية في مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز، نُشرت الاثنين، إن “سوريا ستُربط بالكامل بنظام سويفت خلال أسابيع قليلة، في خطوة تُعيد البلاد إلى قلب المنظومة المالية العالمية بعد 14 عامًا من الحرب والعقوبات، التي تسببت في شلل شبه كامل للاقتصاد السوري”.
علامة فارقة في مسار الإصلاح
تُعد هذه الخطوة، بحسب محافظ المركزي السوري، أول علامة فارقة في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الجذرية التي تنفذها الحكومة السورية المؤقتة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي تولّى السلطة نهاية العام الماضي بعد الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد.
وأشار الحصرية إلى أن السلطات الجديدة تسير بسرعة نحو “جذب التجارة والاستثمار الدوليين، وتحقيق استقرار مالي، وإزالة العوائق أمام الأعمال”.
خريطة طريق اقتصادية جديدة
من داخل العاصمة دمشق، كشف الحصرية عن خريطة طريق لإعادة هيكلة النظام المالي والنقدي في سوريا، تشمل إصلاحات تمتد من 6 إلى 12 شهرًا. وتتضمن هذه الخطة إصلاح قوانين البنوك والبنك المركزي، وهيكلة تمويل الضمان الاجتماعي والإسكان، وتحديث آليات السياسة النقدية بهدف تعزيز صورة البلاد كمركز مالي واستثماري إقليمي.
وأوضح المحافظ: “نهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وخلق مناخ مالي مستقر، وتشجيع المغتربين السوريين على استثمار أموالهم في الداخل، خصوصًا في مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية”.
وداعًا للسوق السوداء
عودة سوريا إلى “سويفت” تعني تمكين البنوك المحلية من إرسال واستقبال الأموال رسميًا عبر القنوات الدولية، ما سيُسهم في تسهيل التجارة الخارجية، وتخفيض تكاليف الاستيراد، وتشجيع التصدير. كما ستؤدي هذه الخطوة إلى الحد من الاعتماد على الشبكات غير الرسمية التي كانت تُستخدم لتحويل الأموال، مثل مكاتب الصرافة، التي كانت تتقاضى ما يصل إلى 40 سنتًا عن كل دولار يُحوّل.
وأكد الحصرية أن المصارف السورية حصلت على رموز “سويفت”، وأن “الخطوة المتبقية هي استئناف البنوك المراسلة معالجة التحويلات الخارجية”.
القطاع المصرفي في قلب المعركة
يعترف الحصرية بأن القطاع المصرفي السوري شبه منهار نتيجة الحرب، والأزمة المالية في لبنان عام 2019، وسياسات النظام السابق. وأضاف: “نريد إنهاء إرث التدخل الحكومي المفرط، واستعادة دور المصارف كوسطاء ماليين حقيقيين، من خلال إعادة رسملة البنوك، وتخفيف القيود، وتعزيز الشفافية”.
تحدث الحصرية عن توجه جديد نحو تعويم مُدار لليرة السورية، بعد أن فقدت أكثر من 90% من قيمتها خلال فترة حكم الأسد. وأوضح أن “الهدف هو توحيد سعر الصرف تدريجيًا، والتقريب بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية”.
وأضاف أن المصرف المركزي بصدد تحديث أدواته للسيطرة على التضخم، وضمان استقرار نقدي يواكب الانفتاح الاقتصادي القادم.
دعم دولي وعربي متزايد
تشهد الحكومة المؤقتة دعمًا سياسيًا واقتصاديًا متزايدًا، خاصة بعد أن أعلنت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، رفع العقوبات عن سوريا بشكل مفاجئ الشهر الماضي، كما بدأت السعودية وقطر في دعم مباشر للموازنة السورية، عبر سداد ديون بقيمة 15.5 مليون دولار للبنك الدولي، وتعهدتا بدفع رواتب موظفي القطاع العام لثلاثة أشهر على الأقل.
وتزامن ذلك مع توقيع اتفاقيات مبدئية مع شركات من الإمارات والسعودية وقطر لتنفيذ مشاريع في البنية التحتية والطاقة.
أدوات مالية جديدة بدلًا من الاقتراض
رغم احتياجات التمويل الضخمة، قررت الحكومة السورية عدم اللجوء إلى القروض، وتدرس حاليًا مع المصرف المركزي إصدار “صكوك” مالية متوافقة مع الشريعة الإسلامية، كبديل للسندات التقليدية، بهدف تمويل مشاريع تنموية وجذب مستثمرين من العالم الإسلامي.
منح دولية لإعادة الإعمار
في إطار الدعم الدولي، تلقّت سوريا 146 مليون دولار من البنك الدولي لدعم قطاع الكهرباء، و80 مليون دولار من السويد لإعادة تأهيل المدارس والمستشفيات.
ويُقدَّر أن إعادة إعمار البلاد ستتطلب مئات المليارات من الدولارات، في ظل دمار واسع طال المدن والبنية التحتية الحيوية، ما يجعل من إعادة بناء الثقة المالية وتفعيل النظام المصرفي أولوية قصوى في المرحلة المقبلة.
وبينما تُواصل الحكومة المؤقتة جهودها لجذب الاستثمارات واستعادة استقرار الاقتصاد، تشكل العودة إلى نظام “سويفت” خطوة رمزية وعملية على حد سواء، تعكس بداية خروج سوريا من عزلتها المالية، وفتح صفحة جديدة من الانفتاح الاقتصادي والانخراط في الأسواق العالمية.
ومع تزايد الدعم الدولي والإقليمي، تبقى قدرة الحكومة على تنفيذ إصلاحات حقيقية وشاملة هي العامل الحاسم في استعادة ثقة السوريين والعالم.