بين وعود أميركية غامضة وتصعيد إسرائيلي دموي غير مسبوق، تتدهور الأوضاع الإنسانية والأمنية في قطاع غزة بشكل مأساوي، مع دخول الهجمات العسكرية مرحلة هي الأعنف منذ انتهاك وقف إطلاق النار الأخير. وأعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الجمعة 16 مايو/أيار، أنه “سيتدخل لحل الوضع في قطاع غزة”، واصفًا ما يحدث هناك بأنه “كارثة إنسانية غير مسبوقة”.
التصريحات جاءت في وقت تسحق فيه آلة الحرب الإسرائيلية الأحياء الشمالية من القطاع، وسط ارتفاع غير مسبوق في عدد الضحايا المدنيين، ما يثير الشكوك حول حقيقة وجدية “الحلول” الموعودة، خصوصًا أنها لم تتضمن أي تفاصيل ملموسة.
قصف كثيف.. وخطة لإفراغ الشمال
في تطور دراماتيكي، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية، منذ صباح الخميس، أكثر من 150 غارة جوية استهدفت مناطق متفرقة شمال القطاع، تركزت على بيت حانون، جباليا، ومحيط معبر بيت حانون/إيرز. وبحسب المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، خليل الدقران، فقد أسفرت الهجمات عن مقتل أكثر من 250 شخصًا خلال أقل من 48 ساعة، بينهم عشرات النساء والأطفال، فيما أصيب المئات بجروح متفاوتة، بعضهم بحالات حرجة.
وتؤكد مصادر محلية أن الهجمات تأتي في سياق خطة تهدف إلى السيطرة الكاملة على شمال غزة، عبر قصف مكثف وتمهيد لعملية برية واسعة النطاق، يُعتقد أنها ستُنفذ خلال الساعات أو الأيام القادمة. الهدف، بحسب مصادر أمنية إسرائيلية، هو “تفريغ المنطقة من السكان ومسلحي الفصائل” وإقامة “منطقة عازلة دائمة”.
كارثة إنسانية معلنة
الوضع الإنساني يزداد سوءًا كل ساعة، مع انقطاع متواصل للكهرباء، ونقص فادح في المياه والمواد الغذائية والأدوية. ويؤكد الهلال الأحمر الفلسطيني أن طواقمه تواجه صعوبة بالغة في الوصول إلى أماكن القصف، فيما تواصل فرق الدفاع المدني انتشال الضحايا من تحت الأنقاض في ظل إمكانيات متواضعة وبنية تحتية مدمرة.
المستشفيات في شمال غزة أعلنت تجاوز قدرتها الاستيعابية، وأطلقت نداءات استغاثة للمنظمات الدولية لتأمين الإمدادات الطبية العاجلة. في الوقت ذاته، شهدت المعابر الإنسانية إغلاقًا شبه كامل، مما زاد من معاناة الجرحى ومنع دخول المساعدات.
وعود ترامب.. مجرد تصريحات؟
تصريحات ترامب بشأن نيته “حل الوضع” في غزة، لم تلقَ صدى إيجابيًا في الشارع الفلسطيني أو في الأوساط السياسية، لا سيما أنها جاءت خالية من أي تفاصيل عملية أو التزامات واضحة. ويعتقد مراقبون أن الرجل، الذي يسعى للعودة إلى البيت الأبيض، يحاول استثمار المأساة لتحقيق مكاسب انتخابية، خاصة بين أوساط الناخبين الأميركيين ذوي الخلفيات الإنجيلية أو المؤيدين لإسرائيل.
وكان ترامب خلال ولايته قد أعلن القدس عاصمة لإسرائيل، وقطع المساعدات عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ما جعله مكروهًا إلى حد بعيد لدى الفلسطينيين.
حرب على الذاكرة والهوية
القصف الحالي لا يقتصر فقط على الأجساد والبنية التحتية، بل يستهدف الذاكرة الجمعية والهوية الفلسطينية في غزة. فإلى جانب سقوط الضحايا، دمرت الغارات مدارس ومساجد ومراكز ثقافية، في محاولة واضحة لتفريغ القطاع من رموزه الحضارية ومقومات الحياة.
وفي ظل صمت دولي وعجز عربي، يبدو أن غزة تُترك مجددًا لمصيرها، بين مطرقة الطائرات الإسرائيلية وسندان وعود لا تسمن ولا تغني من جوع.