تسلّط تصريحات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم جيبريسوس، الضوء على عمق الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، في ظل الحصار الإسرائيلي والهجمات المتواصلة منذ أشهر. هذه التصريحات، الصادرة عن أعلى جهة دولية مسؤولة عن الصحة العامة، لا تنقل فقط صورة عن التدهور المأساوي للأوضاع، بل تكشف أيضا عن حجم العجز الدولي، وفشل منظومة الحماية الإنسانية في الوصول إلى المدنيين، لا سيما الأطفال، الذين باتوا في صدارة ضحايا المجاعة وسوء التغذية.
دلالات صادمة
الإشارة إلى دخول 112 طفلاً يومياً إلى مستشفيات غزة للعلاج من سوء التغذية، منذ بداية العام، تحمل دلالات صادمة، وتؤكد أن القطاع الصحي بات في مواجهة مع كارثة ممتدة تطال الفئات الأكثر هشاشة، في بيئة باتت تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. وليس الأمر مجرد مؤشر صحي، بل هو نتيجة مباشرة للسياسات الإسرائيلية التي تستخدم الحصار كسلاح جماعي ضد السكان، وسط انهيار البنية التحتية الطبية ونقص فادح في الإمدادات.
التحذير بأن الوضع في غزة “تجاوز مرحلة الكارثة” هو توصيف بالغ الخطورة، يصدر عن منظمة عُرفت تاريخياً بالحذر في لغة بياناتها. وهو يعكس تحول الأوضاع في القطاع من مجرد أزمة إنسانية إلى ما يشبه حالة إبادة بطيئة، تتم على مرأى ومسمع العالم، دون تدخل فعّال لوقفها. ويُفهم من هذا التوصيف أن غزة لم تعد فقط في دائرة الخطر، بل في عمق الانهيار، صحياً وإنسانياً واجتماعياً.
نقاط توزيع المساعدات تفضح الوجه الآخر للحصار
كما تحمل الأرقام الواردة عن عدد المستشفيات العاملة – فقط 17 من أصل 36 – رسالة واضحة بأن النظام الصحي في غزة لم يعد قادراً على الاستجابة للاحتياجات المتزايدة. الأخطر من ذلك هو الإشارة إلى غياب أي مستشفى فاعل في شمال القطاع ومدينة رفح، ما يعني أن مئات آلاف المدنيين في تلك المناطق باتوا دون أي منفذ للعلاج، في وقت تتصاعد فيه وتيرة الغارات والعمليات العسكرية.
تصريحات جيبريسوس حول مقتل 500 شخص أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات، تفضح الوجه الآخر للحصار، وتكشف عن استهداف مباشر للمحاولات الإنسانية. كما تشير إلى أن تلك النقاط، رغم تبعيتها للولايات المتحدة وإسرائيل، لم تنجُ من العنف، في غياب ضمانات أممية لحماية المدنيين خلال البحث عن الغذاء، ما يجعل من الحصول على لقمة العيش itself مخاطرة قد تفضي إلى الموت.
التواطؤ بالصمت
ورغم كل هذه المؤشرات المفزعة، فإن تصريح المسؤول الأممي بأن المنظمة تمكنت من دخول غزة “بشكل محدود للغاية” ولأول مرة منذ مارس/ آذار، يفضح أيضاً مدى القيود المفروضة على عمل المؤسسات الدولية، ويكشف عن مدى تحكم الاحتلال الإسرائيلي بمداخل القطاع، بل وبمن يُسمح له بالمساعدة ومن لا يُسمح، مما يقوّض جوهر العمل الإنساني الذي يُفترض أن يكون محايداً وغير خاضع للاعتبارات السياسية أو العسكرية.
في المجمل، تعكس هذه التصريحات إدانة مبطنة للسياسات الإسرائيلية، وتحمل المجتمع الدولي مسؤولية أخلاقية وقانونية مضاعفة. فالصمت أمام هذه الكارثة – التي أصبحت موثقة بأرقام أممية – لا يعني فقط الفشل في حماية المدنيين، بل يرقى إلى مستوى التواطؤ بالصمت. والواقع أن التحذيرات لم تعد كافية، ما لم تتبعها إجراءات ملموسة لرفع الحصار وضمان إيصال المساعدات ووقف الهجمات، خاصة أن المستهدفين اليوم ليسوا مقاتلين، بل أطفال يُحرمون من الغذاء والدواء، ويموتون ببطء تحت أنقاض النظام الدولي.