منذ النكبة الأولى عام 1948، يُعرف الفلسطينيون عموماً، وأهالي قطاع غزة تحديداً، بأنهم من أكثر الشعوب ارتباطاً بأرضهم، وأشدّهم تمسّكاً بالهوية والحق، رغم الكلفة العالية التي يدفعونها يومياً من دمهم ولقمة عيشهم وكرامتهم. واليوم، في ظل مأساة غير مسبوقة يعيشها قطاع غزة — مجازر دموية، تجويع ممنهج، انهيار صحي كامل، ودمار شبه شامل للبنية التحتية — لا يزال هذا الشعب، المُنهك جسدًا، متماسكًا روحيًا، متمسكًا بأبسط حق “أن يبقى”.
حملة إبادة منهجية
المأساة الحالية ليست مجرد “حرب” أخرى، بل هي حملة إبادة منهجية، تُمارَس على مراحل، وبأساليب متنوعة، من القصف المباشر إلى الحصار والتجويع. لقد توقف عمل المستشفيات، لا فقط بسبب القصف، بل بسبب استنفاد الوقود والدواء والطواقم الطبية. مئات الآلاف أصبحوا بلا مأوى، وآلاف الشهداء ما زالوا تحت الأنقاض أو في قوائم المفقودين. ومع ذلك، لم نسمع مطلباً جماعياً من الأهالي لقبول التهجير أو مغادرة غزة، حتى ولو كان الثمن استمرار الموت.
لفهم هذا الصمود العجيب، لا بد من العودة إلى جذور الوعي الجمعي الفلسطيني. التهجير ليس مفهوماً نظريًا عند الغزيين، بل هو جرح حي. معظم سكان القطاع هم أبناء وأحفاد لاجئين طُردوا من مدنهم وقراهم عام 1948، وقضوا سبعة عقود يعيشون على أمل العودة، لا الرحيل من جديد. لذلك، حين يُعرض عليهم “الخروج الآمن” أو “الممرات الإنسانية”، يفهمونه كما يجب أن يُفهم: كجزء من مخطط إعادة إنتاج النكبة بصيغة محدثة.
شرعية لم تُهزم
كما أن صمودهم لا ينبع فقط من عناد أو عاطفة، بل من وعي سياسي حاد. يدرك سكان غزة أن القبول بالتهجير لن يكون إنقاذًا، بل نهاية لقضيتهم. فالتهجير الجماعي يعني تفريغ الأرض من أهلها، ويحوّل غزة من منطقة محتلة إلى “أرض فارغة” تنتظر مصيرًا يُرسم في غرف السياسة الإسرائيلية. ومن هنا، يأتي قرار البقاء رغم كل شيء، كتحدٍ وجودي أكثر منه خيارًا.
لكن ما يلفت الانتباه في هذه المأساة هو أن هذا الصمود لا يُغذّى بشعارات كبيرة أو وعود سياسية، بل بحقائق يومية صغيرة: صورة أم تُمسك بأطفالها وسط الركام، شاب يُصر على توثيق المجازر رغم الخطر، أطباء يجرون عمليات دون تخدير، عائلات تُقسّم رغيف الخبز تحت القصف. هذه المشاهد، التي تمرّ على العالم يومياً، هي وقود البقاء في غزة، وهي ما يمنح هذا الشعب شرعية لم تُهزم رغم كل ما فقده.
إصرار على البقاء
ووسط هذا كله، يأتي الصمت الدولي أو التواطؤ الإقليمي كصفعة إضافية. لم يعد الغزيون ينتظرون من العالم أن ينقذهم، بل باتوا يعرفون أن خلاصهم لن يأتي إلا من صبرهم على الألم، وإصرارهم على البقاء في أرضهم، مهما اشتدت المجازر أو ضاق الخناق.
لقد اختار الغزيون البقاء، لا لأنهم لا يخشون الموت، بل لأنهم لا يريدون أن يفقدوا الحياة بمعناها الحقيقي: الأرض، الهوية، الكرامة. وحين يتوقف العالم أمام سؤال: لماذا لا يغادرون؟ فليتذكر أن من تم تهجيره مرة، لن يسمح بإعادة المشهد.. ولو كان الثمن أن يُحاصر حتى أنفاسه الأخيرة.