في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، أصبح تأمين الغذاء واحداً من أعقد التحديات اليومية التي يواجهها السكان، لا سيما بعد استهداف منهجي للبنى التحتية المدنية ومراكز الإغاثة. ومع تعمُّق الحصار وغياب الممرات الإنسانية الآمنة، لم يعد الحديث عن “أزمة إنسانية” كافياً، بل هو وصف غير قادر على الإحاطة بحجم الكارثة الفعلية.
منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، اتّبعت إسرائيل سياسة التجويع الممنهج كأداة حرب واضحة، من خلال استهداف مخازن الأغذية والمخابز والمراكز اللوجستية التابعة للأونروا والمنظمات الإغاثية. بل إن كثيراً من الشاحنات التي كانت تنتظر السماح بالدخول من معبر رفح أو كرم أبو سالم، إما تم تأخيرها بشكل مقصود، أو تعرضت للقصف، ما أدى إلى تقليص الكميات التي تصل إلى الداخل بنسبة تفوق 80%.
أعلاف الحيوانات غذاء للمواطنين
ومع توقف مراكز الإغاثة، اضطر الأهالي في غزة إلى العودة لأساليب النجاة البدائية. لا طحين، لا ماء صالح للشرب، لا غاز لطهي ما تبقى من طعام. بعض العائلات باتت تعتمد على الأعشاب البرية أو الخبز اليابس، وأحياناً على ما يمكن العثور عليه في الأنقاض أو من المساعدات التي تُهرّب عبر طرق ترابية بدائية في ظروف خطيرة جداً. وقد شهدنا تقارير عن عائلات تشارك علبة طعام واحدة لعدة أيام، أو تخلط الأعلاف المخصصة للحيوانات بالماء كي تقتات عليها.
الأسواق الشعبية باتت شبه خالية، والمزارع إما تم تدميرها أو لم يعد بالإمكان الوصول إليها. أما المساعدات التي تنجح في العبور، فهي تُوزَّع غالباً بطرق عشوائية أو خاضعة لآليات معقدة يسيطر عليها الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يُفقدها الجدوى في كثير من الأحيان. كل ذلك وسط انهيار شامل للبنية الصحية وانعدام الكهرباء، ما يعني استحالة تخزين أي مواد غذائية قابلة للتلف.
إرادة سياسية للضغط على إسرائيل
هذا الوضع يُظهر بشكل واضح أن تجويع سكان غزة ليس نتيجة ثانوية للحرب، بل استراتيجية متعمّدة لإخضاع الناس عبر كسر إرادتهم الأساسية للعيش. وحتى في أحلك الحروب في التاريخ الحديث، نادراً ما وصل الأمر إلى هذا المستوى من التجاهل للقانون الدولي الإنساني، الذي يحظر بشكل صريح استخدام الجوع كسلاح.
المجتمع الدولي، ورغم إدراكه الكامل لهذا الواقع، لا يزال عاجزاً عن تأمين ممر إنساني مستدام يسمح بدخول الغذاء والدواء. لقد أصبحت المطالبات بتوفير “الهدن الإنسانية المؤقتة” بمثابة مسكنات إعلامية لا تغير شيئاً على الأرض. ومع غياب الإرادة السياسية الحقيقية للضغط على إسرائيل، يستمر هذا الواقع اليومي من الجوع القاتل، كأنه أمر واقع يجب على الفلسطينيين التكيّف معه، لا مقاومته.
ما يجري في غزة ليس فقط أزمة إنسانية، بل جريمة تجويع جماعي تتطلب تحركاً عاجلاً وفورياً من العالم، لا مجرّد الشجب والتنديد. فالجوع لا ينتظر قرار مجلس أمن، والمعدة الفارغة لا تُقنعها خطابات التضامن.