النتائج التي كشف عنها استطلاع مركز “أوراد” للرأي العام تُظهر تحوّلاً لافتاً في المزاج الشعبي داخل قطاع غزة تجاه قضايا الحكم والإدارة، في ظل كارثة إنسانية غير مسبوقة. وبينما تعكس الأرقام المعاناة اليومية من الجوع، والتشريد، وانهيار النظام الصحي، وانعدام الأمان، فإنها في الوقت نفسه تُسلّط الضوء على تراجع كبير في ثقة السكان بالحكم القائم، وتحديداً تجاه حركة حماس التي تدير القطاع منذ 2007.
البحث عن بديل سياسي وإداري
في عمق هذه الأرقام يكمن تحول جوهري: الغزيون لا يكتفون بإبداء رفضهم للكارثة المستمرة، بل باتوا يعبرون عن رغبة واضحة في البحث عن بديل سياسي وإداري. فحين لا تتجاوز نسبة الثقة بحماس لإدارة المساعدات الإنسانية 2%، مقابل 60% لمؤسسات الأمم المتحدة، فإن ذلك ليس مجرد استياء، بل هو تعبير عن فقدان الثقة العميق في قدرة الحركة على تلبية الحاجات الأساسية أو التعامل بشفافية وعدالة مع الموارد.
اللافت أن تفضيل الغالبية الساحقة أن تكون إدارة الحكم بيد جهات فلسطينية، وليس دولية أو عربية أو إسرائيلية، يعكس تمسكاً بالسيادة الوطنية، لكنه في الوقت نفسه يوجه رسالة مباشرة إلى الفصائل، وعلى رأسها حماس: المطلوب شراكة لا احتكار، ومحاسبة لا تفرّد.
رفض شعبي لحماس
إن هذا الرفض الشعبي لحماس لا يمكن عزله عن السياق السياسي والعسكري للحرب الأخيرة، ولا عن تاريخ طويل من الانقسام والفساد وسوء الإدارة، الذي فاقم من هشاشة القطاع، وأفقد الناس أي شعور بالأمان أو الأمل. ومع تزايد القصف والتجويع، أصبح الغزيون لا يرون في حماس جهة حامية أو مدبّرة، بل طرفاً سياسياً فقد شرعيته التمثيلية في عيون كثيرين.
الاستطلاع كشف أيضاً عن انعدام الثقة شبه الكامل بالقوى الإقليمية والدولية التقليدية، إذ حصلت الدول العربية على 2% فقط من الثقة في إدارة المساعدات، ما يشير إلى شعور بالغ بالخذلان، بينما لم تتجاوز ثقة الغزيين بالولايات المتحدة 5%، في رسالة واضحة بأن الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل جعل من واشنطن جزءاً من الأزمة لا من الحل.
حل وطني شامل
الأمر الأكثر دلالة أن هذا الاستطلاع أُجري في لحظة شديدة الحساسية، وسط دمار كامل، ومجتمع مصدوم، ومنهك، ويواجه خطر الإبادة. ومع ذلك، كان الغزيون قادرين على إيصال صوت سياسي واضح: لا لحماس بصيغتها الحالية، ولا لأي جهة خارجية تفرض نفسها بقوة السلاح أو النفوذ، بل نعم لحل وطني شامل، يعيد الثقة للمواطن، ويُعيد بناء غزة على أسس جديدة من الشفافية، والكفاءة، والمشاركة.
إن قراءة هذا الاستطلاع من دون تفكيك دلالاته السياسية تعني تفويت فرصة حقيقية لإعادة النظر في شكل الحكم والتمثيل داخل غزة، وربما داخل الحالة الفلسطينية بأكملها. فالغزيون لم يطلبوا شيئاً خارقاً: فقط أن يكون هناك من يستمع إليهم، ويخدمهم، ولا يتاجر بجراحهم، ولا يحتكر باسم المقاومة كل أوجه السلطة. ومن هذه الزاوية، يُمكن القول إن استطلاع “أوراد” ليس فقط مؤشراً للرأي العام، بل وثيقة سياسية تنذر بمرحلة قادمة، لا تقبل استمرار الوضع القائم.