في صباحٍ مثقلٍ بالموت، وقفت أمّ فلسطينية في الأربعين من عمرها على بوابة مستشفى ناصر في خان يونس، تحتضن جثة ابنها الوحيد، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. كانت الدموع محبوسة في عينيها، كأن الحزن قد جفّف كل ما تبقى من الدمع، ووجهها الغارق بالغبار لم يعكس سوى صمت الانكسار.
خرج الفتى في الصباح الباكر إلى موقع توزيع المساعدات قرب محور نتساريم، علّه يحمل لأمه كيساً من الطحين أو علبة حليب، لكنه عاد جثة هامدة برصاصة مباشرة في الصدر.
استهداف الخيام بالصواريخ
في الخيمة الممزقة قرب المواصي، جلس أبٌ نازح يحتضن ثلاثة من أطفاله المذعورين. لم يعد يملك شيئاً يقدّمه لهم سوى أن يضمّهم إلى صدره كلما دوّى انفجار أو اقترب هدير طائرة مسيّرة. هو نفسه لم يذق الطعام منذ يومين، لكن كل ما يشغله الآن هو أن ينجو هؤلاء الصغار من القصف المتجدد. قبل يومين، فقدت أسرته ابنة عمّه وطفلتها الرضيعة، عندما سقط صاروخ على خيمتهم، في منطقة سبق أن أعلنتها إسرائيل “آمنة”. لا يعرف حتى الآن لماذا استُهدفت خيمة بلا حديد ولا إسمنت، سوى لأنها تحتوي على أناس لا يملكون شيئاً إلا حياتهم.
في مركز طبي ميداني بنُصب حديثاً وسط حي التفاح، جلست فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تتحدث بهدوء إلى طبيبة متطوعة. كانت يدها اليمنى ملتفّة بالشاش، لكنها لا تشكو من الألم. ما يؤلمها أكثر هو أنها لم تعثر على أخيها منذ يومين، بعدما خرجا معاً ليجمعا الحطب. الصواريخ سقطت فجأة، والناس فرّوا في كل اتجاه، ثم جاء الإسعاف ليحملها وحدها. لا تعرف إن كان أخوها مصاباً، أو مدفوناً تحت الأنقاض، أو ما زال حياً بين الركام.
الموت في طابور المساعدات
أما المسنّ “أبو صبحي”، فقد استشهد وهو ينتظر مساعدات الغذاء في طابور طويل قرب مركز رفح. كان يحمل كيساً فارغاً وعصا خشبية تعينه على المشي. لم يكن يبحث عن وجبةٍ فاخرة، بل رغيفاً يسد به جوع أحفاده الذين ينتظرونه في الخيمة. عندما سقط على الأرض مضرجاً بالدماء، لم يتمكن أحد من الاقتراب منه فوراً، فالرصاص ما زال يحصد الواقفين حوله. رحل قبل أن يتمكّن من تلبية وعدٍ بسيطٍ قطعه لصغاره: أن يعود إليهم بطعام.
بين أروقة المستشفيات المكتظة، يعمل المسعف “سامي” بلا توقف منذ أيام. يداه ترتجفان، ووجهه شاحب، لكنه لا يملك ترف التوقف أو الانهيار. في إحدى الليالي الأخيرة، نقل جثة فتاة صغيرة تبلغ من العمر 8 سنوات، ثم اكتشف أنها ابنة جيرانه الذين تهدمت خيمتهم قبل أسبوع. يعرف العائلة جيداً، وكان قد ساعدهم في الانتقال إلى منطقة المواصي ظناً منه أنها أكثر أماناً. يشعر بالذنب.. وكأنّه هو من أرشدهم إلى الموت.
رحلة موت
هذه المشاهد ليست خيالاً، ولا لقطات من فيلمٍ درامي، بل يوميات واقعية من قطاع غزة الذي يعيش حصاراً وقصفاً وتجويعاً ممنهجاً. حيث يتحوّل الخروج لطلب المساعدة إلى “رحلة موت”، ويغدو كل تجمع إنساني هدفاً لقنّاصة أو طائرة. قصص هؤلاء ليست أرقاماً في بيانات، بل شهادات حيّة على مأساة كبرى في زمنٍ يتفرج فيه العالم، أو يصمت، أو يبرر.