ما كشفت عنه شبكة CNN الأميركية من تفاصيل وخرائط دقيقة بشأن ما يُسمى “الخطة الإسرائيلية لاحتلال قطاع غزة” لا يُعد مجرد تقرير صحفي، بل وثيقة تفضح تحول الاحتلال من حملة عسكرية إلى مشروع استعماري ممنهج هدفه إعادة رسم الجغرافيا والديموغرافيا في غزة بالكامل، وتفكيكها فعليًا ككيان سياسي واجتماعي وإنساني.
ما يجري ليس فقط حرباً أو ردّ فعل على هجوم السابع من أكتوبر، بل مشروع ضم تدريجي تُستخدم فيه القوة العسكرية، والتجويع، والتهجير، والهدم، كأدوات تنفيذية ضمن مخطط صريح لتفريغ الأرض من سكانها أو على الأقل محاصرتهم داخل مناطق خاضعة بالكامل للرقابة الإسرائيلية.
دلالات أوامر الإخلاء
منذ منتصف مارس، وبحسب التقرير، أصبح أكثر من 80% من قطاع غزة إما منطقة عسكرية مغلقة أو تحت أوامر الإخلاء. هذه النسبة تعني عمليًا أنه لم يتبقَ للفلسطينيين من مساحة القطاع سوى شرائط ضيقة موزعة في مناطق يُراد لها أن تكون مستودعاً للسكان، أشبه بمخيمات دائمة، تُدار عبر المساعدات وتُراقب أمنياً كأنها مناطق عزل. ويؤكد ذلك إنشاء “الممرات” العسكرية الإسرائيلية الأربعة (مفالسيم، نتساريم، كيسوفيم، موراج)، التي لا تقسم القطاع جغرافيًا فقط، بل تقطّعه فعليًا إلى مربعات يمكن السيطرة عليها عسكريًا بسهولة، وتُفصل بينها مناطق خالية من السكان بفعل الهدم الممنهج للمنازل والمزارع والمباني.
أوامر الإخلاء التي بلغت 31 أمراً منذ 18 مارس ليست تعليمات عسكرية مؤقتة، بل أدوات ترهيب وتنفيذ سياسي، تهدف إلى إعادة إنتاج خريطة سكان جديدة في غزة، قائمة على الطرد القسري المتكرر وتدمير مفهوم “المنزل” و”الحي” و”الانتماء”. وحين يُجبر الناس على الفرار سيرًا على الأقدام، في ظل غارات مستمرة، فإن إسرائيل لا تترك لهم هامشًا للاختيار، بل تفرض نمط حياة جديد يقوم على الخيام والتشرد والخوف، وتحوّل فكرة العودة إلى الديار إلى حلم مستحيل.
تطويع غزة سياسيًا
الهدف من هذا النمط المنهجي من التهجير هو كسر روح المجتمع الغزي، وتحويل السكان من كيان مقاوم إلى كتلة بشرية تسعى فقط للبقاء، مشغولة بالبحث عن الماء والطعام والمأوى. وهذا ليس مجرد أثر جانبي للحرب، بل جزء من مخطط يهدف إلى تطويع غزة سياسيًا بعد إخضاعها إنسانيًا، والتمهيد لاحتمال ضم أجزاء منها مستقبلًا أو تحويلها إلى منطقة منزوعة السيادة وخاضعة للإدارة الأمنية الإسرائيلية المباشرة.
دلالات منع الصيد، وتدمير القوارب، وهدم البنية التحتية الطبية، والقيود على حركة المساعدات، تكشف جميعها أن ما يجري هو حرب شاملة على شروط الحياة ذاتها، لا على المقاتلين فحسب. فحين لا يكون هناك مكان آمن في غزة، ولا مرفق طبي، ولا ماء نقي، ولا وسيلة رزق، فإن الخيار الوحيد الذي تريده إسرائيل هو أن يختار الفلسطينيون الرحيل – طوعًا أو كرهًا – تحت ضغط الموت البطيء.
لكن حتى هذا المخطط لا ينجح تمامًا كما يُراد له، لأن الفلسطيني، كما أظهرت شهادات كثيرة، يفضل الموت في أرضه على النجاة في المجهول. وبدلاً من أن تؤدي عمليات الإخلاء المتكررة إلى تفكيك الهوية والانتماء، فإنها تعمّق الوعي بأن هذه الحرب ليست مجرد معركة عسكرية، بل معركة وجودية على الأرض والكرامة والمستقبل.
مشروع سياسي عنصري
ما يجري في غزة اليوم لم يعد يُقرأ فقط كسياق لحرب استثنائية، بل كمشروع سياسي عنصري طويل الأمد يعيد إنتاج النكبة بأدوات جديدة، ويهدف إلى خلق واقع جغرافي جديد يُنهي إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويحوّل غزة إلى كيان محاصر معزول وظيفته الوحيدة البقاء تحت سيطرة الاحتلال.
وفي ظل هذا كله، ينهار القانون الدولي تمامًا، وتفشل المؤسسات العالمية في حتى ضمان الحد الأدنى من الحماية الإنسانية، فيما تقف دول كبرى متفرجة أو داعمة، وكأن ما يُرسم من خرائط جديدة لغزة ليس فقط بعلمهم، بل برضاهم.