لو أردنا أن نتناول سؤالًا افتراضيًا يحمل طابعًا تحليليًا واستشرافيًا: ماذا لو لم يكن لدى حماس أسرى إسرائيليون؟ فإننا لا نتحدث فقط عن غياب ورقة تفاوضية، بل عن تغيير كامل في قواعد اللعبة التي تحكم مسار الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، وربما عن إعادة تعريف دوافع إسرائيل وخططها الحقيقية تجاه الفلسطينيين.
في واقع الأمر، ورقة الأسرى هي اليوم المانع الوحيد ـ أو على الأقل الأبرز ـ الذي يكبح جماح إسرائيل عن اجتياح شامل قد ينتهي بمذبحة جماعية. وجود رهائن إسرائيليين لدى المقاومة يجعل الحكومة الإسرائيلية محاصرة بضغط داخلي هائل من أهالي الأسرى، وتحت مجهر الرأي العام العالمي الذي، رغم انحيازه التقليدي لإسرائيل، لا يمكنه تجاهل مصير مواطنيها المحتجزين. هذا العنصر الإنساني ـ ولو أنه في جوهره سياسي ـ فرض معادلة معقدة: لا يمكن الانتصار الكامل دون استعادة الرهائن، ولا يمكن استعادة الرهائن دون مفاوضات، ولا مفاوضات بلا تهدئة، ولا تهدئة دون اعتراف ـ ولو ضمني ـ بوجود طرف فلسطيني له كيان وقدرة تفاوضية.
الحل العسكري النهائي
لكن، لو افترضنا غياب هذه الورقة، فإن ما كان يمكن أن نشهده هو اندفاع إسرائيلي كامل نحو تطبيق ما يمكن تسميته بـ”الحل العسكري النهائي” في غزة. الهجوم كان سيأخذ طابع الإبادة الكاملة أو التهجير الجماعي، بذرائع القضاء على حماس، ولكن بالنتيجة الحقيقية: إنهاء الوجود الفلسطيني المقاوم في القطاع وربما فتح الباب أمام صفقة “تصفية” للقضية الفلسطينية. لم يكن هناك ما يمنع إسرائيل، في ظل غياب الأسرى، من أن تمارس أقصى درجات القتل والتدمير دون التزامات تجاه أي طرف.
هذا السيناريو يتقاطع مع سؤال أكبر: هل كانت النية مبيتة لإسرائيل لإبادة غزة؟ المؤشرات كثيرة تدعم هذه الفرضية. الخطاب الإسرائيلي الرسمي، وعلى رأسه تصريحات نتنياهو وقيادات الجيش، ينضح بلغة “الاستئصال”، “الإبادة”، “الاجتثاث الكامل”، وهي مصطلحات تتجاوز الأهداف العسكرية إلى أهداف وجودية. التصعيد الحربي الأخير، رغم الدعوات الدولية للتهدئة، يظهر بوضوح أن إسرائيل لا تسعى فقط إلى القضاء على حماس، بل إلى تحطيم البنية الاجتماعية والبشرية للقطاع. تدمير البنية التحتية، استهداف المرافق الحيوية، الحصار الشامل، ومنع المساعدات، كلها أدوات لا تعكس حربًا ضد جماعة، بل سياسة لتفريغ غزة من الحياة.
موقف حماس المتعنت
النية ليست طارئة، ولا يمكن فهمها إلا ضمن سياق أوسع يمتد لعقود من محاولات دفع الفلسطينيين إلى التخلي عن أرضهم، أو الانصهار تحت شروط “السلام الإسرائيلي”، الذي يقوم على نزع السلاح، نزع الهوية، ونزع الكرامة.
من هنا، فإن الحديث عن “موقف حماس المتعنت” يصبح خادعًا إذا لم يُقرأ في ضوء ما يعرض عليها. لا يمكن أن نطلب من طرف محاصر، مهدد بالإبادة، أن يفاوض على استسلامه. نعم، حماس ليست بريئة من الأخطاء السياسية والعسكرية، لكن لا يمكن فصل مواقفها عن واقع أنها تقف في مواجهة مشروع يريد إنهاء القضية الفلسطينية من جذورها، لا فقط إسقاط حركة مسلحة.
خطاب القوة
إسرائيل، عبر خطاب القوة الذي عبّر عنه دونيل هارتمان، لا تخجل من إعلان أن بقاءها في المنطقة مرهون بإبراز سطوتها. القوة أصبحت ليس فقط وسيلة للبقاء، بل غاية في ذاتها. وبهذا المفهوم، فإن غياب الأسرى الإسرائيليين كان ليحرر هذه القوة من آخر القيود، ويطلق يدها لفعل ما لا تستطيع فعله الآن تحت ضغط المفاوضات.
الدرس الأهم هنا، أن ورقة الأسرى ليست مجرد أداة تفاوض، بل صمام أمان ـ ولو جزئي ـ لشعب بأكمله، يحول بينه وبين الإبادة الشاملة. وهي أيضاً تفضح وهم أخلاقيات “الانقسام الإسرائيلي”، الذي كثيرًا ما يُصوَّر كصراع ضمير، في حين أنه غالبًا مدفوع فقط بالخسائر الداخلية، لا تعاطفًا مع الضحايا الفلسطينيين.