تشهد إسرائيل واحدة من أكثر لحظاتها الداخلية اضطرابًا منذ تأسيسها، حيث بدأت تتشكل موجة غضب وتصدع عميق في النسيج المجتمعي، على وقع الحرب المستمرة على غزة. هذا الغضب ليس فقط من نتائج الحرب في حد ذاتها، بل من طبيعتها، وطول أمدها، وطريقة إدارتها، وخاصة ما بات يُنظر إليه داخل الأوساط الإسرائيلية كفشل أخلاقي واستراتيجي مزدوج: استمرار سقوط الرهائن من دون أفق للحل، مقابل مشهد دمار شامل في غزة جرّ على إسرائيل عزلة دولية غير مسبوقة.
الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي
من كان يتخيل قبل شهور فقط، أن مسؤولين عسكريين سابقين ونوابًا ومثقفين في إسرائيل، سيتحدثون بهذه اللهجة عن دولتهم، متهمين إياها علنًا بقتل المدنيين كسياسة، لا كهفوة؟ تصريحات مثل تلك التي أطلقها يائير غولان وموشيه يعالون، تعكس حالة من الانفكاك الحاد بين النخب الأمنية والعسكرية والسياسية من جهة، وحكومة بنيامين نتنياهو من جهة أخرى، بل وتحمل نذر انقسام حقيقي في الموقف من استمرار الحرب على غزة.
الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي بات واضحًا، لا سيما مع تزايد أصوات ذوي الرهائن الذين يعتبرون أن استمرار القتال يُهدد حياة أبنائهم، بدلاً من أن ينقذهم. استطلاعات الرأي بدأت تُظهر أن الغالبية لم تعد ترى في الحرب أداة فاعلة لتحقيق الأهداف، بل أصبحت عبئًا يطيل المأساة ويزيد الخسائر، ويضعف موقف إسرائيل الدولي.
تبعات الحرب على غزة
المظاهرات التي تنظمها مجموعات مثل “نقف معًا”، والتي تضم يهودًا وعربًا داخل الخط الأخضر، كانت إلى وقت قريب تُعتبر هامشية، لكنها بدأت تكتسب زخمًا واضحًا، وتعكس تحولا في وعي شريحة من المجتمع الإسرائيلي الذي بدأ يرى أن الحرب لم تعد “حربًا للدفاع عن النفس”، بل صارت مشروعًا مدمرًا تقوده حكومة متطرفة بلا رؤية للخروج، سوى في اتجاه المزيد من العنف.
هذه الموجة من الغضب ليست آنية أو سطحية، بل تتغذى من شعور عميق بالخيانة: خيانة الثقة بقيادة فشلت في منع أسوأ هجوم يتعرض له الإسرائيليون منذ قيام الدولة، وفشلت كذلك في تقديم استراتيجية عقلانية بعده. الحديث لم يعد فقط عن تبعات الحرب على غزة، بل عن مستقبل إسرائيل نفسها، وعن مصير ديمقراطيتها، وعلاقاتها الخارجية، وصورتها الأخلاقية.
تحولات عميقة في شكل حكم إسرائيل
ما يحدث اليوم هو تحوّل في المزاج العام، من حالة من الغضب الانتقامي في بداية الحرب، إلى حالة من الصدمة واليأس والتمرد الصامت، وأحيانًا الصريح. فالمجتمع الإسرائيلي، الذي ظل طويلاً موحدًا خلف شعار “الأمن أولًا”، بدأ يرى في السياسات الحالية خطرًا على أمنه ذاته، وعلى نسيجه الداخلي، وعلى مكانته في العالم.
وإذا استمرت هذه الحرب، واستمر معها الجمود السياسي، وغياب الأفق الواضح لحل إنساني وسياسي، فإن الغضب الداخلي في إسرائيل لن يكون مجرد حالة احتجاج، بل قد يتحول إلى أزمة شرعية شاملة تُعيد خلط أوراق السلطة، وتفتح الباب أمام تحولات عميقة في شكل الحكم، وتحالفات الدولة، بل وحتى في فلسفة وجودها.