تُظهر تصريحات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” بشأن انهيار القطاع الزراعي في غزة حجم الكارثة البنيوية التي خلّفتها حرب الإبادة الإسرائيلية، ليس فقط على البنية التحتية المدنية أو الصحية، بل على المورد الأساسي الذي يُفترض أن يؤمّن الحد الأدنى من الأمن الغذائي للسكان. إن تراجع نسبة الأراضي الصالحة للزراعة إلى 4.6% فقط هو مؤشر صادم على التدمير الممنهج، ويعكس استراتيجية واضحة لا تستهدف فقط البشر، بل قدرة الفلسطينيين على البقاء في أرضهم والاعتماد على ذاتهم.
الأمن الغذائي رهينة للإرادة السياسية
الزراعة في غزة لم تكن فقط نشاطًا اقتصاديًا، بل كانت رمزًا للثبات والصمود في وجه الحصار طويل الأمد، وهي مصدر رزق لآلاف العائلات. لذلك فإن تدمير هذا القطاع يعني تعطيل دورة الإنتاج المحلي، وتعميق الاعتماد على المعونات الخارجية التي بات وصولها شبه مستحيل بسبب الحصار وتقييد الممرات الإنسانية. وقد أصبح الأمن الغذائي الآن رهينة للإرادة السياسية والعسكرية للاحتلال، لا لأي قدرة داخلية أو حتى دولية على المساعدة.
خطورة ما أعلنته “الفاو” لا تكمُن فقط في حجم الدمار، بل في عجز المنظمة الأممية ذاتها عن إيصال الحد الأدنى من المساعدات الزراعية، حتى “بذرة واحدة أو كيس سماد”، بحسب تصريح ممثلها الإقليمي. هذا العجز الأممي الفعلي يعكس فشل المنظومة الدولية في فرض قواعد القانون الإنساني، أو حتى توفير المساعدات الأساسية في منطقة تُصنّف رسميًا على أنها “منكوبة”، ويواجه سكانها خطر المجاعة.
محاولات بدائية للزراعة فوق الأنقاض
البيئة التي نتجت عن الحرب – من دمار في التربة، وملوحة عالية بسبب تسرّب مياه البحر، وقصف مباشر للحقول والدفيئات – جعلت الزراعة شبه مستحيلة، ودفعت المزارعين إلى محاولات بدائية للزراعة فوق الأنقاض أو بين خيام النزوح. هذه الصورة لا تعبّر فقط عن كارثة إنسانية، بل عن سياسة إفقار وتجويع منهجية ترمي إلى تقويض مقومات البقاء الفلسطيني في القطاع.
أثر هذا التدمير يتجاوز البعد المحلي ليضرب في عمق منظومة الغذاء في فلسطين ككل. فغزة كانت تسهم في توفير بعض أنواع الخضروات للأسواق الفلسطينية، أما اليوم فقد أصبحت عبئًا غذائيًا مضاعفًا لا يملك فيه السكان ما يقتاتون به، ولا تملك المؤسسات ما تقدّمه لهم. وحين لا تستطيع “الفاو” دعم 200 مزارع سوى بدعم محدود ومؤقت في خان يونس ورفح، فهذا لا يعكس نجاحًا، بل يعكس هشاشة تدخلات الإغاثة أمام واقع العدوان الشامل.
الانهيار الغذائي الذاتي
تدمير القطاع الزراعي هو أيضًا أحد أدوات التهجير الناعم. فحين يفقد الناس مصدر رزقهم المباشر، وتُحاصر الأرض بالموت والتجريف والقصف، يُصبح الرحيل خيارًا مفروضًا، لا قرارًا شخصيًا. ومن هنا فإن الهجوم على الزراعة هو هجوم على الهوية، وعلى إمكانية الاستمرارية المجتمعية للفلسطينيين في غزة.
ما يجري في القطاع الزراعي ليس مجرد أثر جانبي لحرب كبرى، بل هو جزء من خطة محكمة لتجريف كل ما يُبقي غزة حيّة. ويعني استمرار هذه السياسة أن إعادة الإعمار الزراعي – إن حدثت – ستستغرق سنوات طويلة، وستحتاج إلى جهود دولية هائلة، في وقت يُفترض أن تكون المساعدة الزراعية جزءًا أساسيًا من أي خطة إنقاذ إنساني عاجل. أما في ظل استمرار هذا الإغلاق الكامل، فإن القطاع يدخل عمليًا في مرحلة الانهيار الغذائي الذاتي، وهو أحد أخطر وجوه الإبادة المعاصرة.