في خضمّ التوترات الإقليمية المتصاعدة، وخاصة بعد تفاقم المواجهة بين إيران وإسرائيل، تواصل طهران عرض عضلاتها العسكرية بصور متسارعة. وكان آخر هذه العروض، الكشف عن الصاروخ الباليستي “فتاح 1″، الذي وصفه الإعلام الرسمي الإيراني بأنه “الأسرع من الصوت”، ويشكل تحولًا نوعيًا في قدرات الردع الإيرانية. لكن خلف العناوين الكبيرة والتصريحات الصاخبة، يطرح السؤال الجوهري نفسه: ما حقيقة هذا الصاروخ؟ وما دلالاته الاستراتيجية في ميزان القوى المتوتر في الشرق الأوسط؟
مواصفات تقنية تتجاوز الرادارات
بحسب وكالة الأنباء الرسمية “إرنا”، فإن صاروخ “فتاح 1” يتمتع بمدى يصل إلى 1400 كيلومتر، ما يجعله قادرًا نظريًا على ضرب أهداف داخل إسرائيل من عمق الأراضي الإيرانية، بل ويغطي نطاقًا واسعًا من القواعد العسكرية الأميركية في الخليج.
يعمل الصاروخ بمحرك يعتمد على الوقود الصلب، وهو ما يمنحه سرعة إشعال فورية وتكلفة تشغيل أقل من المحركات العاملة بالوقود السائل. أما الميزة الأهم، وفقًا للرواية الإيرانية، فهي امتلاكه لفوهة متحركة في المرحلة الثانية من الطيران، وهي المرحلة التي تتم خارج الغلاف الجوي. هذه الميزة تمنحه القدرة على تغيير اتجاهه في الفضاء، ما يُصعّب من مهمة اعتراضه.
يُضاف إلى ذلك قدرة الصاروخ على تنفيذ مناورات داخل وخارج الغلاف الجوي، مما يجعله ــ وفق الإعلام الإيراني ــ “غير قابل للرصد أو الاعتراض بسهولة” من قبل أنظمة الدفاع الجوي التقليدية مثل “القبة الحديدية” أو “باتريوت” أو حتى “آرو-3” الإسرائيلية.
هل هو تفوق فعلي أم مجرد مصطلحات إعلامية؟
ورغم الطابع “الثوري” الذي حاولت طهران إضفاءه على هذا السلاح، إلا أن الخبراء يشيرون إلى أن وصف “فتاح” بأنه “فرط صوتي” قد لا يكون بالدقة التي تروج لها إيران. فمعظم الصواريخ الباليستية العابرة، حتى تلك المتوسطة المدى، تصل إلى سرعات تفوق 5 ماخ أثناء تحليقها، خاصة في مراحل السقوط الحر نحو الهدف.
الفرق الأساسي الذي يميز الصواريخ الفرط صوتية الحديثة عن الباليستية التقليدية لا يكمن فقط في السرعة، بل في القدرة على المناورة بشكل فعال في مرحلة التحليق، خصوصًا على ارتفاعات منخفضة وفي مسارات غير باليستية، مما يعقد عملية تتبعها واعتراضها.
وعليه، يرى محللون غربيون أن “فتاح 1” رغم تحسيناته، لا يرقى بعد إلى فئة “الصواريخ الفرط صوتية القابلة للمناورة الكاملة” مثل الروسية “أفانغارد” أو الصينية “DF-ZF”، بل هو بالأحرى صاروخ باليستي تقليدي مطور، مع بعض القدرات المناوراتية المحدودة.
البعد الاستراتيجي للعرض الإيراني
توقيت الكشف عن “فتاح 1” لا يبدو بريئًا. فالإعلان تزامن مع تصاعد الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، وتصاعد الحديث عن احتمال تورط الولايات المتحدة عسكريًا في حال توسع نطاق المواجهة. وفي هذا السياق، يبدو أن إيران أرادت إرسال رسائل مزدوجة: الأولى للداخل الإيراني لتأكيد “قوة الردع”، والثانية للخارج مفادها أن لديها أدوات تستطيع بها تهديد العمق الإسرائيلي في حال تطور المواجهة.
ويأتي هذا في سياق سباق تسلّح إقليمي متزايد، حيث كثفت إسرائيل من تجارب منظوماتها الدفاعية، وأدخلت تعديلات على منظومة “آرو-3” المصممة للتصدي للصواريخ الفرط صوتية. كما بدأت دول الخليج في تحديث أنظمتها الدفاعية تحسبًا لأي توسع في رقعة التصعيد.
هل يشكل “فتاح” تهديدًا فعليًا؟
بالنظر إلى التجارب السابقة، لا تزال قدرات إيران الصاروخية محط جدل. فقد أثبتت في السنوات الأخيرة أنها قادرة على إنتاج منظومات باليستية فعالة، كما حدث في قصف قاعدة “عين الأسد” الأميركية عام 2020. ومع ذلك، فإن فعالية هذه المنظومات تبقى نسبيّة، خاصة في مواجهة أنظمة دفاعية متطورة مدعومة من الولايات المتحدة.
التهديد الحقيقي الذي يشكله “فتاح 1” يكمن في عامل المفاجأة، لا في تدمير شامل محتمل. ففي حال استخدامه ضمن هجمات مكثفة ومنسقة مع طائرات مسيرة وصواريخ قصيرة المدى، قد يُربك الدفاعات الجوية، ويوجه ضربة رمزية مؤلمة. لكنه، على الأرجح، لن يكون السلاح الحاسم الذي يقلب موازين القوة.
رسالة سياسية بلبوس عسكري
إجمالًا، يمكن اعتبار صاروخ “فتاح 1” أداة ردع دعائية بقدر ما هو سلاح فعلي. فهو يخدم خطاب طهران الذي يعوّل على استعراض القوة كوسيلة للمساومة على الطاولة السياسية. ويبدو أن النظام الإيراني يعوّل على تطوير مثل هذه القدرات، ليس من أجل شن حرب شاملة، بل لإعادة صياغة قواعد الاشتباك في المنطقة، عبر القول: “نحن نملك أدوات الرد… فاوضونا قبل أن نستخدمها”.
وفي عالم تتداخل فيه التقنيات العسكرية مع رسائل الجغرافيا السياسية، يبقى “فتاح 1” تعبيرًا عن استراتيجية إيران الأوسع: تثبيت موقعها كقوة إقليمية، حتى في ظل الحصار والعقوبات، عبر أدوات “الردع الموجّه” والقدرات غير المتكافئة. أما مدى واقعية هذه الرسائل… فذلك ما ستكشفه الأيام القادمة.