ليلة الاثنين، لم تكن عادية في جرمانا. المدينة التي احتضنت على مدى سنوات الحرب السورية طيفًا واسعًا من اللاجئين والنازحين، وبدت كأحد آخر الجيوب المدنية المتماسكة في محيط العاصمة، وجدت نفسها فجأة أمام انفجار طائفي يهدد ما تبقى من نسيجها الاجتماعي، على وقع تسجيل صوتي مجهول المصدر، يُقال إنه يتضمّن إساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، نُسب إلى أحد رجال الدين من الطائفة الدرزية.
لم تمر ساعات على انتشار التسجيل حتى استحال الغضب العام إلى مظاهرات غاضبة رُفعت فيها شعارات صادمة، استحضرت لغة الكراهية وتاريخ الانقسامات، ودعت إلى الانتقام الجماعي من طائفة بأكملها، رغم أن عائلات درزية عديدة سارعت إلى استنكار التسجيل ورفضت بشكل قاطع أي مساس بالرموز الإسلامية، مؤكدة أن المساس بالمقدسات ليس من قيمها، ولا يمكن تبريره أو نسبه إلى الطائفة.
إلا أن التوضيحات جاءت متأخرة أمام سرعة انتشار الدعوات إلى الفتنة، والتي اتخذت من وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا لها، حتى وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار. ففي ذات الليلة، هاجمت مجموعات مسلحة المدينة من جهات مختلفة، ما أدى إلى اشتباكات عنيفة بين هذه الفصائل والقوى الأمنية والمجموعات المحلية، وأوقع ذلك عددًا من القتلى والجرحى، كما سقطت قذائف هاون وسط المدينة، لتتحول جرمانا إلى ساحة حرب مصغرة.
صوت الرصاص حل محل أصوات الحياة المعتادة، والخوف سيطر على السكان، الذين اختبروا للمرة الأولى منذ سنوات حالة من الفوضى الكاملة والفرز الطائفي العلني. ورغم أن وزارة الداخلية السورية سارعت إلى إصدار بيان تؤكد فيه أنها تتابع التحقيقات بشأن التسجيل الصوتي، مشيرة إلى أن الشخص المتهم لا يُعتقد أنه صاحب الصوت، إلا أن البيان بدا باردًا بالنسبة لكثيرين، وعاجزًا عن كبح الغضب الشعبي أو التصدي للخطاب التحريضي الذي كان يتمدد كالنار في الهشيم.
العديد من السكان اعتبروا أن الدولة لم تتعامل بجدية مع مؤشرات الخطر، وأن هذا التراخي بات مألوفًا. فمنذ سنوات، تعيش البلاد تحت وطأة أزمات متعددة، لكنّ الدولة اختارت مرارًا أن تتدخل متأخرة، أو أن تختبئ خلف بيانات إنشائية لا تقنع أحدًا. وها هي اليوم تواجه أزمة من نوع جديد، أزمة تطال جوهر “الوحدة الوطنية” التي لطالما ادعت حمايتها.
في مواجهة التصعيد، دعت الحكومة إلى اجتماع طارئ، ضم مسؤولين من محافظة ريف دمشق وممثلين عن المجتمع الأهلي والديني، بهدف احتواء الموقف قبل انفلات الأمور أكثر. اللقاء كان صريحًا ومشحونًا، لكنه أفضى إلى صيغة تفاهم مبدئية، نصّت على ضرورة جبر الضرر لعائلات الضحايا، ومحاسبة المتورطين في الهجوم، بالإضافة إلى ضبط الإعلام والتحريض الإلكتروني، وإعادة فتح الطرق وتأمين مرور المدنيين بين دمشق والسويداء، في محاولة رمزية للتأكيد على أن الجسور لم تُقطع بعد.
غير أن ما جرى لم يكن فقط أزمة أمنية أو رد فعل على تسجيل صوتي. بل كان تجليًا صريحًا لتراكمات متفجرة تحت السطح، من الشعور بالغبن والإقصاء، إلى غياب العدالة الانتقائية، إلى تصدّع مفهوم الدولة الحامية الذي بات في نظر كثيرين مجرّد شعار لا ترجمة له على الأرض. فحين تصبح هوية الفرد سببًا في تحميله ذنبًا لم يرتكبه، ويُحاسب الناس على انتمائهم لا على أفعالهم، فإن المجتمع يتحول إلى كيان هش، معرّض للانقسام والانهيار عند أول شرارة.
منى، امرأة في أواخر الأربعين من عمرها، قالت بحزم إن “ما حصل في جرمانا هو نتيجة حتمية لإفلات المجرمين من العقاب في جرائم سابقة، من الساحل إلى حلب”، مضيفة: “حين لا توجد عدالة، تنمو الغريزة، ويُترك الناس لإدارة الأمور وفق منطق الانتقام”. وهي لا تلوم الناس على الغضب، بقدر ما تلوم السلطة التي “تركت الفصائل تتمدد، والخطاب الطائفي يتعاظم، حتى بات من الصعب كبحه.”
أما نزار، موظف متقاعد في الثالثة والخمسين، فيحمّل منصات التواصل الاجتماعي مسؤولية إشعال الفتنة، منتقدًا ما وصفه بـ”التواطؤ الصامت” من قبل الجهات الأمنية التي لم تبادر إلى إغلاق الحسابات التحريضية أو محاسبة أصحابها. في نظره، المسألة ليست التسجيل بحد ذاته، بل الطريقة التي جرى التعامل بها معه: “كل طائفة فيها مسيئون، وكل دين فيه من يسيء. لكننا نختار دائمًا أن نعمّم الخطأ على الآخر إذا لم يكن من طائفتنا. وهنا يبدأ الانهيار الحقيقي”.
الوضع في جرمانا عاد إلى الهدوء جزئيًا، لكن المدينة ما تزال تحت طوق أمني كثيف، والسكان يعيشون في حالة ترقّب. الجميع يتساءل: هل كانت هذه مجرد حادثة معزولة؟ أم بداية فصل جديد من التصفيات الطائفية المتبادلة التي لطالما حذر منها العقلاء؟ وهل تملك الدولة ما يكفي من إرادة وقدرة لتطويق ما حدث، أم أنها، كما جرت العادة، ستكتفي بإخماد النيران مؤقتًا ببياناتها المعلّبة؟
في لحظة فارقة مثل هذه، لا يكفي أن تُفتح التحقيقات أو أن تُعقد الاجتماعات. ما يحتاجه السوريون اليوم هو وضوح في الموقف، عدالة لا تفرّق بين طائفة وأخرى، وخطاب رسمي يُدين التحريض دون مواربة، لا أن يكتفي بلعب دور المراقب الصامت. فالوطن الذي تُنهشه الفتنة لا يحتاج إلى مجاملات، بل إلى قرارات جريئة تُعيد الاعتبار لسلطة الدولة، وتمنع استنساخ السيناريوهات السوداء التي يعرف الجميع إلى أين تقود.