في تحرك قضائي قد يفتح الباب أمام محاكمات تاريخية بحق رؤساء سابقين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، طلبت النيابة العامة الفرنسية الجمعة تأييد مذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، على خلفية الهجمات الكيميائية التي استهدفت ضواحي دمشق في أغسطس 2013. وتأتي هذه الخطوة في لحظة سياسية وقانونية حساسة، تجمع بين تحولات في الشرعية الدولية ومساعٍ متواصلة لمحاسبة النظام السوري على جرائمه خلال الحرب.
جدل الحصانة أمام أعلى هيئة قضائية
عُرض الملف أمام محكمة النقض، وهي أعلى هيئة قضائية في فرنسا، خلال جلسة استماع خصصت للنظر في مدى إمكانية إسقاط الحصانة الرئاسية عن بشار الأسد. وفي سابقة من نوعها، اقترح النائب العام في المحكمة، ريمي هايتز، أن تُمنح استثناءات قانونية تتيح ملاحقة رئيس أجنبي سابق أمام القضاء الفرنسي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بجرائم موثقة يُصنّفها القانون الدولي تحت بند “الجرائم الكبرى”.
وأوضح هايتز أن فرنسا لم تعد تعتبر بشار الأسد “رئيسًا شرعيًا” منذ عام 2012، وهو ما يفتح الباب قانونيًا، برأيه، أمام تجريده من الحصانة الشخصية. وأضاف أن “الجرائم الجماعية المرتكبة في سوريا هي التي دفعت فرنسا إلى اتخاذ هذا القرار غير المألوف بعدم الاعتراف بشرعية الأسد، وهو قرار يحمل تبعات قانونية مباشرة على ملفه القضائي”.
مذكرة توقيف على خلفية استخدام غاز السارين
تستند مذكرة التوقيف إلى الهجمات الكيميائية التي استهدفت مناطق الغوطة الشرقية ومعضمية الشام في 21 أغسطس 2013، والتي خلّفت أكثر من ألف قتيل، معظمهم من المدنيين، بينهم نساء وأطفال. ووجهت التهم إلى بشار الأسد بصفته “متواطئًا في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”، نظراً للدور القيادي الذي شغله خلال تنفيذ تلك الهجمات.
وكانت محكمة الاستئناف في باريس قد صادقت على المذكرة في يونيو 2024، قبل أن تطعن فيها كل من النيابة العامة الوطنية لمكافحة الإرهاب ومكتب المدعي العام لمحكمة الاستئناف، مستندين إلى مبدأ الحصانة المطلقة للرؤساء أثناء توليهم مناصبهم.
ومن المقرر أن تصدر محكمة النقض قرارها النهائي في 25 يوليو، وسط ترقب حقوقي ودبلوماسي واسع، قد تكون له انعكاسات تتجاوز الحالة السورية.
تغيّر في المواقف بعد انتهاء عهد الأسد
المناخ السياسي الذي تحيط به هذه القضية تبدّل بشكل كبير منذ الإطاحة ببشار الأسد نهاية عام 2024، ووصول أحمد الشرع إلى السلطة في إطار مرحلة انتقالية. الشرع، الذي يحظى باعتراف دولي واسع، سعى منذ توليه الرئاسة إلى طي صفحة الإفلات من العقاب، وأعلن للمرة الأولى أن دمشق تطالب روسيا، حليفة الأسد، بتسليمه لمحاكمته على الجرائم التي يُشتبه بضلوعه فيها.
وقال الشرع إن بلاده “تسعى لبناء الثقة مع المجتمع الدولي عبر خطوات ملموسة، تشمل المحاسبة والتعويضات وإعادة الإعمار”، مؤكدًا أن سوريا الجديدة لا يمكن أن تبدأ من دون عدالة انتقالية جدية.
مذكرة أخرى في قضية مواطن فرنسي-سوري
ولم تقتصر التهم على جرائم 2013، إذ أصدرت المحكمة الجنائية المختصة بجرائم ضد الإنسانية في باريس مذكرة توقيف ثانية بحق الأسد، تتعلق بقصف مدينة درعا في 7 يونيو 2017، والذي أدى إلى مقتل المواطن الفرنسي-السوري صلاح أبو نبوت (63 عامًا) بعد استهداف منزله في حي طريق السد. وأظهرت التحقيقات أن الهجوم نُفذ بواسطة براميل متفجرة ألقتها مروحيات تابعة لقوات النظام السوري، وكان المبنى المستهدف يُستخدم كمركز تعليمي تابع لمنظمة إنسانية.
وتقدّم نجل الضحية، عمر أبو نبوت، بشكوى قضائية عام 2019، اعتبر فيها أن هذه القضية “تُجسد نضالًا دام سنوات في سبيل العدالة”، ورحّب بالتحرك الفرنسي باعتباره “نقطة مفصلية في الاستجابة لمطالب الضحايا السوريين”.
جهود فرنسية لإنهاء الإفلات من العقاب
وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أكد أن بلاده “لن تتسامح مع الإفلات من العقاب في جرائم الحرب”، مشيرًا إلى أن مذكرة التوقيف “ليست مجرد أداة قانونية بل رسالة سياسية وأخلاقية”. وقد زار بارو سجن صيدنايا، وعاين – بحسب تصريحه – “بعضًا من فظائع نظام الأسد”، مؤكداً أن “فرنسا حشدت جهودها، وستستمر، لضمان العدالة للسوريين”.
معركة قانونية… وسياسية
مع اقتراب موعد النطق بقرار محكمة النقض، تتصاعد التوقعات بشأن ما إذا كانت فرنسا ستفتح الباب فعليًا لمحاكمة رئيس سابق على جرائم ارتكبت أثناء توليه الحكم، في سابقة قد تشكّل مرجعية دولية في قضايا مشابهة. لكن الملف لا يخلو من اعتبارات سياسية، أبرزها العلاقة المعقدة بين موسكو وباريس، والضغوط المحتملة التي قد تنشأ مع توسيع نطاق المساءلة ليشمل قادة دول آخرين تورطوا في صراعات داخلية.
وإذا ما قررت المحكمة إسقاط الحصانة، فقد يكون ذلك نقطة تحول في أدوات العدالة الدولية، وتأكيدًا على أن “الشرعية” لم تعد حصنًا قانونيًا يقي المسؤولين من الملاحقة حين يُتهمون بارتكاب فظائع جماعية.