في مشهد يعكس تعقيد المشهد السياسي الإسرائيلي، تتجدد مرة أخرى محاولات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتأجيل مثوله أمام المحكمة في قضايا الفساد التي تلاحقه منذ سنوات، وهذه المرة عبر استثمار الحرب الدائرة في غزة والتصعيد الإقليمي مع إيران كذريعة سياسية وأمنية للهروب من المساءلة القانونية. فطلبه الأخير، المقدم عبر محاميه، بتأجيل شهادته، بحجة “التطورات الإقليمية والعالمية”، ليس إلا خطوة إضافية ضمن سلسلة مناورات تهدف إلى كسب الوقت وإبعاد الأنظار عن ملفات جنائية تهدد مستقبله السياسي والشخصي.
انقلاب قضائي
القضايا التي يُحاكم فيها نتنياهو – المعروفة إعلاميًا بملفات 1000 و2000 و4000 – تتعلق بتلقي منافع شخصية ورشاوى، والتورط في صفقات فساد إعلامي، والتلاعب بسياسات حكومية لصالح أطراف تجارية وإعلامية مقابل تغطية إعلامية إيجابية. وهي قضايا تمس جوهر نزاهة الحكم، وتضع رئيس الوزراء أمام اتهامات خطيرة، قد تؤدي، في حال الإدانة، إلى نهاية سياسية مدوية.
لكن نتنياهو، بخبرته السياسية الطويلة، لم يتوقف منذ توجيه الاتهامات عن استخدام أدوات الدولة لصالح معركته الشخصية مع القضاء. فقد سعى منذ البداية إلى تصوير المحاكمة على أنها “انقلاب قضائي” ضده، يحركه خصوم سياسيون وإعلاميون. والآن، يتوسل الظرف الأمني الحرج ليقدّم نفسه كزعيم منشغل بالقضايا المصيرية، لا يمكن أن يُربك تركيزه بالجلسات القضائية.
تقويض مبدأ فصل السلطات
الحرب مع إيران والتصعيد المستمر في غزة، بطبيعة الحال، أحداث حقيقية ومعقدة، ولا يمكن إنكار حجم الضغوط التي يواجهها أي رئيس حكومة في هذا السياق. غير أن توقيت الطلب، وصياغته، والطريقة التي يربط بها نتنياهو بين دوره القيادي وبين الحاجة إلى تعليق المحاكمة، تكشف محاولة مكشوفة لاستخدام الدماء والمأساة لتحقيق مكاسب شخصية. إنه يُقدّم نفسه، مجددًا، كدرع واقٍ للدولة في زمن الحرب، بما يشبه محاولة لتجريم أي مساءلة قضائية بوصفها عملًا غير وطني أو إضرارًا بمصالح الدولة.
الخطورة هنا لا تكمن فقط في تعطيل العدالة، بل في تقويض مبدأ فصل السلطات، وتحويل النظام القضائي إلى رهينة للمزاج السياسي. فنتنياهو، وهو يطلب تأجيل الشهادة، لا يفصل بين موقعه كمتهم وموقعه كرئيس وزراء، بل يوظف الثاني لعرقلة الأول، مستندًا إلى ظرف طارئ، لكنه يكرره كلما ضاقت به السبل. وقد سبق أن لجأ إلى هذا النوع من المبررات في مناسبات سابقة، مما يجعل من هذه الخطوة الأخيرة جزءاً من نمط متكرر في سلوكه السياسي والقانوني.
الهروب من العدالة
في المقابل، يجد القضاء الإسرائيلي نفسه أمام اختبار حقيقي لاستقلاله. فالموافقة على هذا الطلب، من دون قيود أو آجال صارمة، تعني ترسيخ سابقة خطيرة يمكن لأي مسؤول مستقبلي أن يستغلها للهروب من العدالة كلما وقعت أزمة أمنية أو تصعيد عسكري، وهو ما يُفرغ المحاكمة من معناها، ويحوّلها إلى عملية شكلية تتآكل بمرور الوقت.
محاولة نتنياهو الأخيرة تضعه، مجددًا، في مواجهة ليس فقط مع القضاء، بل مع الرأي العام الإسرائيلي الذي بات منقسمًا بين من يرى فيه زعيمًا قويًا يواجه تحديات غير مسبوقة، ومن يرى فيه سياسيًا بارعًا في المناورة والتهرب، حتى على حساب مبادئ العدالة والديمقراطية. وإذا كانت الحرب في غزة وإيران مستمرة، فإن المعركة الأخرى – تلك الدائرة في قاعة المحكمة – لا تقل خطورة، لأنها تعني ما إذا كان من الممكن في إسرائيل محاسبة أقوى رجل في الدولة، أم أن السلطة ستظل دائمًا أعلى من القانون.