تفتح تقارير الاستخبارات النمساوية نافذة مقلقة على طبيعة النشاط النووي الإيراني، مقدمةً قراءة مغايرة تمامًا لتقديرات الاستخبارات الأمريكية التي ما زالت تراهن على توقف البرنامج النووي عند العتبة السياسية. وبينما تؤكد واشنطن أن طهران لم تتخذ بعد قرار الانطلاق نحو السلاح النووي، تكشف فيينا عن ملامح برنامج متقدم، يسير بثبات باتجاه التسلح الكامل، مع استراتيجيات استخباراتية متشعبة تستهدف قلب الصناعة الأوروبية من أجل تحقيق هذا الهدف.
في شهادتها أمام مجلس الشيوخ في مارس/آذار 2025، أعادت مديرة الاستخبارات الأمريكية تولسي غابارد التأكيد على تقييم واشنطن بأن المرشد الإيراني علي خامنئي لم يعطِ الضوء الأخضر لاستئناف البرنامج النووي العسكري، وهو ما يتطابق مع موقف أمريكي تقليدي يوازن بين الضغوط السياسية وخطاب الردع، لكنه يبدو اليوم متآكلاً أمام ما ورد في التقرير النمساوي، الذي بدا أكثر صراحة وجرأة في الحديث عن طموحات إيران الإقليمية وأدواتها غير التقليدية.
فبحسب هيئة حماية الدولة وخدمة الاستخبارات النمساوية، فإن إيران تسعى إلى بناء درع نووي يحصّن نظامها السياسي ويمنحها اليد العليا في معادلات القوة بالشرق الأوسط، بل ويتجاوز نطاق الجوار الجغرافي. التقرير، الممتد على 211 صفحة، يتحدث بوضوح عن ترسانة صاروخية باليستية متنامية، قادرة على حمل رؤوس نووية، ما يضع دولًا أوروبية ضمن دائرة الخطر، وليس فقط إسرائيل أو دول الخليج.
غير أن الأخطر من التقدير التقني هو الكشف عن منظومة متكاملة لجمع التكنولوجيا والمكونات الحساسة من الغرب عبر شركات وهمية، وطلبة، وعقود عمل مدروسة بعناية. فالحرس الثوري الإيراني، وفق التقرير، كثّف نشاطه التجسسي داخل مؤسسات البحث والتطوير الأوروبية، مستغلًا الفجوات في أنظمة الرقابة وبعض الثغرات في القوانين التجارية، خصوصًا في دول صغيرة كالنمسا التي تمثل بوابة خلفية للأسواق الأوروبية الكبرى.
ويشير التقرير إلى أن محرك الطائرة المسيّرة «مهاجر-6» التي أسقطتها القوات الأوكرانية فوق البحر الأسود في 2022، كان من إنتاج شركة «روتاكس» النمساوية، ما يعكس مدى التسلل الإيراني في سلاسل الإمداد الصناعية، رغم العقوبات المفروضة على طهران. ورغم إعلان الشركة وقف تعاملها مع الحرس الثوري بعد ضغوط أمريكية، فإن الأمر لم يُغلق فعليًا في ظل وجود شركات وسيطة وشبكات مشتريات مموّهة.
التحقيقات النمساوية رصدت كذلك ازديادًا ملحوظًا في طلبات التوظيف التي يتقدم بها إيرانيون لدى شركات تعمل في صناعات دقيقة، من الهندسة الكهربائية إلى التكنولوجيا الميكانيكية والفيزياء النووية، ما يشي بمحاولة الحصول على معرفة «ناعمة» قد تكون حاسمة في تطوير الأسلحة، وتجاوز القيود المفروضة على عمليات الاستيراد.
ومع تزايد تدخلات طهران في مناطق النزاع، من سوريا إلى فلسطين، يرى التقرير أن مسار التسلّح الإيراني بات جزءًا من عقيدة استراتيجية توسعية لا تكتفي بالردع، بل تسعى إلى فرض وقائع ميدانية بقوة السلاح وميزان الرعب. ومع غياب رقابة دولية فاعلة، وتراجع نبرة المواجهة الغربية، تبدو إيران أكثر تحررًا من أي وقت مضى في سعيها لإعادة رسم موازين القوى الإقليمية، ولو بثمن سباق تسلّح لا يخلو من المخاطر الوجودية على أمن أوروبا.
وبينما تنشغل إدارة ترامب الجديدة بإعادة تموضع استراتيجيتها في الشرق الأوسط عبر التفاوض مع طهران لا مواجهتها، تضع التقارير الأوروبية مؤسسات القرار أمام اختبار حقيقي: كيف يمكن كبح طموح نووي حقيقي لا يستند فقط إلى المفاعلات والمخازن، بل إلى عقل استخباراتي مرن، عابر للحدود، يجيد التمويه والاختراق أكثر مما يخشاه الردع التقليدي؟
السؤال مفتوح، والإجابات الأوروبية والأمريكية ما زالت تتأرجح بين النفي والتشكيك، في وقت يبدو فيه البرنامج الإيراني قد تجاوز عتبة الإنكار إلى مسار التنفيذ الفعلي، وربما الصامت.