دخلت النكبة الفلسطينية، عامها السابع والسبعين، فلم تعد مجرد ذكرى تُحيى في الفعاليات والمناسبات الوطنية، بل أصبحت واقعًا يوميًا مريرًا يُعاد إنتاجه في كل لحظة في قطاع غزة والضفة الغربية، وسط حرب مفتوحة، وانتهاكات مستمرة، وغياب أفق سياسي واضح. إحياء وزارة التربية والتعليم العالي لهذه الذكرى في المدارس، من خلال المعارض الفنية والفعاليات الثقافية، جاء هذا العام في سياق مختلف تمامًا، تتداخل فيه الذاكرة التاريخية للمأساة الأولى عام 1948، مع مآسي جديدة تُكتب يوميًا بالدم والدمار.
معاناة يومية تُعيد إنتاج النكبة
في غزة، النكبة اليوم ليست فقط رمزية أو مرتبطة بالتهجير القديم، بل تتحول إلى نكبة جديدة معاصرة يعيشها أكثر من مليونَي فلسطيني، تحت القصف والمجاعة والحرمان والتشريد. العدوان الإسرائيلي المستمر، منذ أكثر من سبعة أشهر، خلف عشرات آلاف الشهداء والمصابين، ودمر البنية التحتية للقطاع بالكامل، من مستشفيات ومدارس ومساجد ومخيمات ومنازل، في مشهد بات يوصف بأنه تطهير ممنهج يستهدف الإنسان والمكان معًا.
أكثر من 80% من سكان غزة باتوا نازحين، يعيشون في ظروف إنسانية هي الأقسى منذ عقود. المجاعة تضرب في الشمال، والنساء يلدن في الخيام، والأطفال يتساقطون جوعًا وأمراضًا. ليست نكبة غزة اليوم استثناءً، بل هي امتداد للنكبة الأولى، بطريقة أشد فتكًا وعلانية، وأمام صمت دولي مريب.
وفي الضفة الغربية، لا يختلف المشهد كثيرًا، وإن كانت صور القصف أقل، فإن النكبة هناك تُصنع عبر سياسة ممنهجة من التهجير الصامت، والاعتقالات اليومية، والمجازر المتنقلة التي تنفذها قوات الاحتلال في المخيمات والمدن. جنين، نابلس، طوباس، رام الله، كلها مدن باتت تحت التهديد اليومي، يتربص بها الموت والدمار في كل اقتحام. الاحتلال يراهن على التفكيك التدريجي للنسيج الاجتماعي الفلسطيني، عبر الضغط المستمر، وضرب البنية المؤسسية، ونشر الخوف.
التأثير السياسي
في ظل هذا المشهد الدموي، تتعرض القضية الفلسطينية لضغط سياسي غير مسبوق. اتفاقيات أوسلو التي كانت من المفترض أن تؤسس لحل الدولتين، انهارت عمليًا. حل الدولتين ذاته بات مرفوضًا من معظم القوى الحاكمة في إسرائيل، التي تتبنى اليوم خطابات يمينية دينية متطرفة، ترى أن الأرض كلها لهم، وأن لا شريك فلسطينيًا على الأرض.
التطبيع العربي، من جهته، أضعف الموقف الفلسطيني كثيرًا، إذ تراجعت القضية في سلم أولويات عدد من الأنظمة التي عقدت اتفاقيات مع إسرائيل، دون ربطها بحقوق الفلسطينيين. وهذا أعطى الاحتلال غطاءً إضافيًا للاستمرار في سياساته القمعية، دون حساب سياسي أو قانوني.
أما الفصائل، تعيش حالة انقسام داخلي عمّق من مأساة الشعب الفلسطيني، حيث غاب المشروع الوطني الجامع، وحضرت الأجندات الجزئية، وتراجع الخطاب السياسي الموحد.
الوعي الشعبي
وسط هذا السواد السياسي، تشكل الأنشطة المدرسية والثقافية التي نظمتها وزارة التربية والتعليم هذا الأسبوع بصيص نور في عتمة النكبة المستمرة. إذ تُثبت هذه الفعاليات أن الذاكرة الوطنية لا تموت، وأن الجيل الجديد من الطلبة الفلسطينيين لا ينسى، ولا يتنازل عن حقوقه، رغم المجازر والمآسي.
الفعاليات في قلقيلية وطوباس وبيت لحم، وغيرها، لم تكن فقط مناسبة لتأبين الماضي، بل كانت تأكيدًا على أن النكبة حاضرة في العقل الجمعي الفلسطيني، وأن كل طفل يحمل اليوم خريطة حق العودة في حقيبته المدرسية، إلى جانب كتبه.
النكبة الفلسطينية لم تُغلق فصولها في 1948، بل تستمر حتى اليوم بأشكال مختلفة: القصف في غزة، الاقتحامات في الضفة، التهجير في القدس، والخذلان الدولي والعربي. لكن في المقابل، فإن صمود الشعب الفلسطيني، وإصراره على تثبيت هويته في الذاكرة والتعليم والثقافة، هو الشكل الأهم من المقاومة.