في إحدى زوايا ممر مظلم داخل مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء، تستلقي أم حسن بجوار ابنها المصاب، يئن من الألم ولا تملك له شيئاً سوى دعاء تهمسه بين دموعها. الرصاصة التي استقرت في فخذ الطفل محمد، ابن العشرة أعوام، منذ أسبوع، لم تُنتزع بعد. الدم يتجمّع حول الضماد الذي أصبح كقطعة قماش ملوثة، بينما أطباء الأونروا، القلائل الذين ما زالوا يعملون، عاجزون عن توفير مسكنات الألم، ناهيك عن إجراء عملية جراحية.
دمار مستشفيات غزة
لم تعد المستشفيات في غزة أماكن للشفاء، بل تحوّلت إلى أهداف. عشرات منها أُغلقت أو دُمرت بالكامل. وأمام هذه الكارثة، باتت المراكز الصحية المتبقية تُدار بإمكانات ضئيلة، وقلوبٍ منهكة، وأملٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة. ستة فقط من أصل 22 مركزاً صحياً تابعاً للأونروا تعمل حالياً، وجميعها تحت خطر القصف في أي لحظة.
تجلس الممرضة نجلاء، التي تعمل في أحد هذه المراكز، بجوار طفلة تحمل في عينيها بريق الحياة رغم الشحوب الظاهر على وجهها. تحكي نجلاء: “نُجري العمليات أحياناً على الأرض، بلا تعقيم، بلا تخدير كافٍ، فقط لنحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه… نشعر أننا نخسر كل يوم.”
المرضى لا يُعدّون بالمئات، بل بالآلاف. إصابات بتر، حروق، جروح ملوثة، أطفال يعانون من الصدمة، أمهات يُنقلن في لحظات الولادة إلى العدم، ولا منقذ. أما الأدوية، فقد أصبحت نادرة كالنجوم في ليل غزة الحالك. المضادات الحيوية شبه منعدمة، وأكياس الدم غير متوفرة، وأجهزة الإنعاش صامتة لأنها بلا كهرباء أو أوكسجين.
صراخ الجرحى
الطفل محمود، الذي أُصيب بشظية في بطنه، ينتظر منذ يومين نقله إلى مستشفى خارج غزة. الأطباء قالوا لأهله بصراحة: “لا نملك ما نفعله. إما أن يتم فتح معبر، أو…”. وبقيت الجملة عالقة في الهواء، كأنهم يخشون النطق بما هو حتمي.
في هذا المشهد القاتم، لا يُسمع سوى صراخ الجرحى، وأنين الأمهات، وصرير العربات الخشبية التي تنقل المصابين من خيمة إلى أخرى. بينما على جدران المستشفى المنهار، عُلّقت ورقة مكتوب عليها بخط مرتعش: “ادعوا لنا… فالعالم صامت.”
غزة تحت المقصلة
القطاع الصحي في غزة، الذي كان هشاً أساساً، انهار تماماً. لم يعد هناك شيء يُسمى “طوارئ”، فكل لحظة هنا طارئة. حتى غرفة العمليات إن وجدت، فهي بلا معدات، وإن توفر الطبيب، فلا دواء، وإن توفر الدواء، لا كهرباء. إنها سلسلة موتٍ معلّقة بين السماء والأرض، حيث لا سماح للرحمة بالمرور، ولا للضمير باليقظة.
إنه نزف مفتوح لا يجد من يوقفه. جراح تصرخ ولا يُسمع صوتها، ووجوه أطفأت الحرب نورها. غزة اليوم ليست فقط تحت الحصار، بل تحت المقصلة، تُذبح ببطء، بينما العالم يدير ظهره. وكل مريض هنا لا ينتظر العلاج، بل ينتظر معجزة… في زمنٍ ندرت فيه المعجزات.