في ضوء المجازر المتكررة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، تبدو حادثة استهداف نقطة توزيع المساعدات في رفح اليوم حلقة جديدة في سلسلة طويلة من العنف الممنهج ضد المدنيين العزل، الذي تخطى حدود الانتهاكات التقليدية ووصل إلى ما يمكن وصفه بالإبادة الجماعية البطيئة. فالمأساة التي راح ضحيتها ثلاثون شهيداً على الأقل، وأكثر من مئة جريح، لم تقع في ميدان قتال، بل في لحظة بحث عن الخبز، وعن رمق للحياة وسط الحصار والجوع والانهيار الإنساني الكامل.
استهداف مباشر للمدنيين
ما يزيد من فداحة الجريمة هو أن الاستهداف لم يكن عرضياً ولا نتيجة “خطأ عسكري”، كما اعتادت إسرائيل أن تروج، بل وقع أثناء محاولة آلاف الفلسطينيين الوصول إلى موقع توزيع مساعدات إنسانية تديره مؤسسة “غزة الإنسانية”، المدعومة – للمفارقة – من أطراف دولية وإسرائيلية على حد سواء. أي أن إسرائيل لم تهاجم “هدفا معاديا”، بل موقعاً يحمل في ظاهره صفة إنسانية، ويُفترض أنه تحت رقابة وضمانات معينة. هذا وحده يضع علامات استفهام كبرى حول النوايا الحقيقية التي تحرك السياسات الإسرائيلية في غزة.
الاستهداف المباشر للمدنيين خلال سعيهم إلى المساعدات الغذائية يكشف عن استراتيجية خنق حقيقية، تتعدى الحصار المادي نحو الضغط النفسي والإذلال الجماعي. فليس من قبيل الصدفة أن تتكرر هذه الحوادث في مواقع توزيع المساعدات، بل يبدو واضحاً أن الاحتلال يتعمد حرمان السكان من أبسط حقوقهم، بما فيها الغذاء والماء والدواء. الهجوم لا يستهدف فقط الأجساد، بل يضرب في عمق الكرامة الإنسانية ويبعث رسالة مفادها أن حتى “النجاة” من القصف لا تعني النجاة من الموت.
قتل تحت قناع الإنسانية
وفي ظل غياب أي تدخل دولي فاعل، أو محاسبة جدية، تزداد هذه الجرائم وقاحة، وتغدو جزءاً من سياسة ثابتة قائمة على العقاب الجماعي، وتجريد الناس من إنسانيتهم. فالمجتمع الدولي الذي صمت على القتل الجماعي منذ 7 أكتوبر 2023، يتحمل اليوم مسؤولية أخلاقية وقانونية عن هذه المجازر، خصوصاً أن التقارير تشير إلى أكثر من 178 ألف قتيل وجريح، وغالبية الضحايا من الأطفال والنساء.
المؤسسات الإنسانية، بما فيها “غزة الإنسانية”، تتحول بدورها إلى ساحة للصراع، وتفقد حيادها الفعلي حين تُدار بشروط الاحتلال، وتخضع عمليات توزيع المساعدات فيها لإجراءات تحقق حيوية ومعايير استبعاد تعسفية، ما يجعلها أداة ضغط لا وسيلة إغاثة. وحين يترافق هذا مع استهداف عسكري مباشر، فإننا أمام مشهد عبثي تتحول فيه “الإنسانية” إلى قناع يُرتكب تحته القتل.
إجراءات حقيقية لوقف العدوان
إن ما يجري في غزة اليوم ليس فقط جريمة حرب، بل جريمة ضد الإنسانية، تُمارس في العلن، وبثقة من لا يخشى العقاب. إن استمرار استهداف المدنيين في لحظات ضعفهم القصوى – أثناء الجوع، والعطش، والانتظار أمام شاحنات الإغاثة – هو دليل على الانهيار الأخلاقي الكامل للمنظومة التي تدير العدوان، وفضيحة مدوية لضمير عالمي يتشدق بالقيم الإنسانية، لكنه يصمت أمام المجازر.
وما لم يتحرك العالم فوراً، ليس فقط ببيانات الإدانة، بل بإجراءات حقيقية لوقف العدوان ورفع الحصار، فإن القادم سيكون أكثر كارثية، وسيبقى الأطفال في غزة يموتون وهم يحملون أيدي أمهاتهم، لا لأنهم كانوا في ساحة معركة، بل لأنهم وقفوا في طابور رغيف خبز.