أثار قرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، بحل جهاز قوّة الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، موجة غضب شعبي واسعة في العاصمة طرابلس، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين الميليشيات المسلحة بعد رفض الجهاز تنفيذ القرار، معتبرين أنه قرار تجاوز السلطة المفوضة له. هذا المشهد الدموي جاء ليعمّق حالة الانقسام السياسي والأمني التي تعاني منها البلاد منذ سنوات، وهو ما زاد من هشاشة الوضع الأمني في العاصمة، وجعل من الصعب الوصول إلى تسوية سلمية في ظل تفاقم الصراع بين الأطراف المختلفة.
في المقابل، عبّرت المحكمة الجنائية الدولية عن تأييدها لهذا القرار، ووصفت إياه بـ”البالغ الأهمية” خلال هذه المرحلة الحرجة، وهو موقف يعكس تعقيدات المشهد السياسي الليبي الذي يعيش على صفيح ساخن. المدعي العام للمحكمة، كريم خان، شدد في إحاطته إلى مجلس الأمن الدولي على ضرورة دعم أي خطوات تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، خصوصاً تلك المرتبطة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بهدف استعادة الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
تحركات مدنية وسياسية تحذر من الانهيار
وسط التصعيد العسكري والفوضى، دعا ناشطون محليون إلى التظاهر والاحتجاج ضد الحكومة التي يرونها مسؤولة عن إذكاء الصراعات، بينما أصدرت مؤسسات مدنية وسياسية بيانات تطالب بتجاوز الانقسام الحاد بين السلطتين التنفيذية، وإيجاد حل سياسي عاجل لإنقاذ ليبيا من دوامة الاقتتال المستمرة. 38 عضواً من مجلس الدولة شددوا على أن استمرار الانقسام يعطل فرص الاستقرار ويغرق البلاد في مزيد من التوتر، داعين إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة تملك الشرعية وتحظى بدعم جميع الأطراف.
وفي الوقت ذاته، طالب عمداء 52 بلدية في المنطقة الغربية بتسمية رئيس حكومة جديدة قادرة على فرض الأمن وإدارة شؤون البلاد بعيداً عن لغة العنف، مؤكدين أن تدهور الأوضاع في طرابلس والاعتداءات التي شهدتها المناطق السكنية تمثل تهديداً مباشراً لوحدة ليبيا. ندد هؤلاء بما وصفوه “غزو واحتلال” من قبل ميليشيات مرتبطة بحكومة منتهية الولاية، محذرين من عواقب استمرار هذا الوضع على مستقبل البلاد.
المجلس الرئاسي يرفع الغطاء السياسي… والأمل في وقف إطلاق نار شامل
من جهة أخرى، أقدم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي على خطوة حاسمة برفع الغطاء السياسي عن حكومة الدبيبة، حيث أصدر قراراً بتجميد كافة قرارات الدبيبة المتعلقة بالشؤون العسكرية والأمنية، بما في ذلك حل جهازي دعم الاستقرار والردع، الأمر الذي فاقم حالة الانقسام داخل مؤسسات الدولة. قرارات المنفي جاءت مصحوبة بوقف شامل لإطلاق النار، مع تكليف رئاسة الأركان العامة بمراقبة تنفيذ القرار وتقييم الأوضاع، بهدف تجنيب العاصمة المزيد من الفوضى.
كما نص القرار على تشكيل لجنة تقصي حقائق برئاسة رئيس الأركان الفريق محمد الحداد للتحقيق في الأحداث الأخيرة والأضرار الناتجة عنها، وهي خطوة تهدف إلى تحقيق المساءلة ومحاسبة المتورطين، لكنها تعكس في الوقت نفسه حجم الانقسام داخل المؤسسة العسكرية التي لم تتوحد حول رؤية واحدة تجاه الأزمة.
الانهيار السياسي وانعكاساته على المدنيين
يعتبر كثير من المحللين السياسيين أن حكومة الدبيبة فقدت شرعيتها القانونية والسياسية والأخلاقية نتيجة تصاعد العنف في طرابلس واحتجاز نحو ثلاثة ملايين مواطن رهائن في صراع على السلطة. ويصفون ما حدث بـ”حرب شوارع” مدفوعة برغبة سياسية في البقاء على السلطة مهما كانت التكاليف البشرية والمادية.
مراقبون تحدثوا عن انهيار مؤسسات الدولة وانفلات الميليشيات التي استغلت حالة الفوضى لنهب الممتلكات العامة والخاصة، وشنّوا حملات عنف وصلت إلى اقتحام معسكرات أمنية وأحياء سكنية، ما زاد من معاناة السكان المدنيين، وأدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات.
هل يحاكم الدبيبة دولياً؟
تتصاعد الدعوات من بعض الفاعلين السياسيين والمجتمعيين في طرابلس لملاحقة الدبيبة قضائياً على خلفية ما شهدته العاصمة من اقتتال ودمار. حيث يرى البعض أن الدبيبة مسؤول مباشرة عن إشعال الحرب التي أودت بحياة العشرات، وطالبوا بتقديمه للعدالة الدولية باعتباره رئيس حكومة فقدت السيطرة على مؤسسات الدولة وأصبحت طرفاً في الصراع.
موجة غضب شعبي تستدعي الحلول الجذرية
تتواصل موجة الغضب الشعبي في طرابلس، حيث قرر السكان العصيان المدني، وامتنعوا عن الذهاب إلى العمل، احتجاجاً على الوضع الأمني المتردي وتدهور الخدمات. بينما دعت بلدية جنزور الجهات المختصة إلى فتح تحقيقات عاجلة لمحاسبة المسؤولين عن زعزعة الأمن، مؤكدة ضرورة تحكيم العقل وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الضيقة.
خلاصة المشهد في طرابلس تؤكد أن الأزمة الراهنة ليست مجرد نزاع عسكري أو أمني، بل هي انعكاس لتفكك سياسي وعجز حكومي عن إدارة الدولة، مما يجعل الحلول المؤقتة غير مجدية. الطريق إلى استقرار ليبيا يمر حتماً عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، قادرة على إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية، بعيداً عن منطق القوة وإراقة الدماء.