على وقع التصعيد العسكري المتواصل في السودان، تبدو شمال كردفان في طريقها لأن تكون مسرحًا لمعارك مصيرية جديدة، مع تكثيف كل من الجيش السوداني والقوات المشتركة المتحالفة معه من جهة، وقوات “الدعم السريع” من جهة أخرى، لتحشيد قواتهما استعدادًا لما بات يُعرف إعلاميًا بـ”معركة الأبيض”، عاصمة الولاية، والمفتاح الاستراتيجي للربط بين كردفان ودارفور.
تعزيزات مكثفة وتثبيت للنقاط الحيوية
بحسب مصادر عسكرية مطلعة، فإن الجيش السوداني وحلفاءه من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، دفعوا بتعزيزات كبيرة نحو محيط الأبيض، لا سيما بعد المعارك العنيفة التي شهدتها منطقة أم صميمة، الواقعة على مسافة قريبة من المدينة. الهدف الواضح – كما تشير التقارير – هو تأمين الطرق القومية وفكّ الطوق المفروض على العاصمة الإدارية لشمال كردفان، مع تقدم تدريجي نحو مدينة الخوي في غرب الولاية.
وفي المقابل، تحشد قوات “الدعم السريع” آلاف المقاتلين، مدعومين بأرتال من العربات والأسلحة الثقيلة في محيط الأبيض، وتحديدًا في مناطق بارا، وأبو زبد، وكازقيل، والخوي، ما يعكس تصميمًا واضحًا على شنّ هجوم مضاد للسيطرة على نقاط التماس.
معركة أم صميمة: تقدم للجيش وكلفة بشرية للدعم السريع
في واحدة من أكثر المعارك دموية خلال الأسابيع الأخيرة، تمكّن الجيش وقواته المتحالفة من استعادة السيطرة على بلدة أم صميمة، بعد ساعات من إعلان قوات “الدعم السريع” دخولها. ووفق بيان صادر عن القوات المشتركة، فقد تكبدت قوات الدعم السريع في هذه المعركة وحدها خسائر فادحة، قدرت بـأكثر من 300 قتيل و25 أسيرًا، إضافة إلى الاستيلاء على ما يفوق 100 مركبة عسكرية ومدافع ميدانية.
ورغم ضبابية الأرقام في ظل غياب مصادر مستقلة محايدة، فإن ما هو مؤكد أن المواجهات تتخذ طابعًا أكثر شراسة، وبات واضحًا أن الطرفين يستعدان لمواجهة كبرى قد تعيد رسم السيطرة الميدانية على الإقليم المتنازع عليه.
حصار اقتصادي وتصاعد الفوضى الإنسانية
ردًا على تفاقم الأوضاع، أصدر والي شمال كردفان المكلّف عبد الخالق عبد اللطيف أمر طوارئ يمنع نقل أو تصدير السلع الاستراتيجية من الولاية دون تصاريح رسمية، في محاولة للحدّ من تهريب الإمدادات إلى “الدعم السريع”، أو استخدامها كسلاح ضغط اقتصادي في المناطق المشتعلة.
لكن في الوقت ذاته، فإن الكلفة الإنسانية باتت لا تطاق؛ فالهجمات العنيفة من قبل قوات الدعم السريع على قرى مثل ود حامد وشق النوم أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى، دفن عدد كبير منهم في مقابر جماعية تحت ضغط الحرب، بحسب بيانات “شبكة أطباء السودان”. وبحسب مصفوفة تتبع النزوح الصادرة عن منظمة الهجرة الدولية، فقد نزحت خلال يومين فقط أكثر من 675 أسرة من مناطق بارا شمال كردفان، في موجة لجوء جديدة تُفاقم الكارثة الإنسانية.
انتهاكات ممنهجة وسيطرة بالقوة على المرافق
وفي تطور بالغ الخطورة، أفادت غرفة طوارئ دار حمر بقيام قوات الدعم السريع باقتحام مستشفيات مدينة النهود، وطرد المرضى بالقوة من أجل تخصيص هذه المنشآت لعلاج مصابيها. وأكدت تقارير ميدانية أن من يرفض الخروج يتعرض للضرب أو الاعتقال، قبل أن يُنقل قسريًا إلى مناطق أبعد في دارفور.
هذه السلوكيات لا تعكس فقط انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، بل تشير أيضًا إلى مأزق طبي متفاقم في مناطق النزاع، حيث تختفي القدرة على تقديم الخدمات الصحية الأساسية وسط انتشار الأمراض وسوء التغذية والذعر العام.
الطيران يدخل على الخط: غارات على المثلث الحدودي
في محاولة لكبح تمدد الدعم السريع في الشمال، دخل الطيران الحربي السوداني على خط العمليات، مستهدفًا مواقع في المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر. وكانت قوات الدعم السريع قد فرضت سيطرتها على هذه المناطق الحساسة قبل أسابيع، في خطوة أرعبت الخرطوم لما تحمله من أبعاد لوجستية واستراتيجية عابرة للحدود.
بين الاستعداد والمجهول: ماذا بعد الأبيض؟
تترقب الخرطوم، ومعها المجتمع الإقليمي والدولي، ما إذا كانت “معركة الأبيض” ستتحوّل إلى لحظة فاصلة في مسار الحرب الممتدة منذ أكثر من عام. فهذه المدينة، بتداخلاتها القبلية وموقعها المحوري في معادلة السيطرة بين كردفان ودارفور، قد تشكل مفتاحًا لإعادة ترتيب الجبهات، أو بوابة لكارثة أكبر.
السودان إذن أمام معادلة مُرّة: جيش منهك يحاول إعادة بسط السيادة، وقوات متمردة تتوسّع بلا كوابح، ومجتمع محلي يتآكل تحت أنقاض الحرب، في حين تغيب أي إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الصراع.