في أعماق كل واحد منا، غالبًا ما يتربص شبح الخوف، سواء كان خوفًا من عنكبوت صغير، أو مكان مغلق، أو حتى مجرد فكرة الصعود إلى مكان مرتفع. وعندما يطل هذا الشبح برأسه، تتسارع دقات قلوبنا وتتعرق أيدينا، إنها استجابة “الخوف الناجم عن التهديد”، آلية فطرية لحمايتنا من الألم المحتمل.
ولكن، ماذا يحدث عندما يستيقظ هذا الخوف حتى في غياب أي تهديد حقيقي؟ هنا يكمن الخطر، فقد يتحول هذا الخوف الطبيعي إلى اضطرابات مقلقة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو الهلع أو القلق المزمن. ولحسن الحظ، لم يعد العلاج محصورًا في المواجهة المباشرة للمخاوف، فقد كشفت دراسة حديثة عن قوة بسيطة تكمن في أعماقنا جميعًا: قوة الخيال.
كسر قيود الخوف.. الخيال نافذة جديدة للعلاج:
لطالما اعتمد علاج اضطرابات الخوف على أسلوب “العلاج بالتعرض”، حيث يتم تعريض الشخص تدريجيًا للمثيرات التي تسبب خوفه في بيئة آمنة، بهدف كسر الرابط بين هذا المثير والعواقب المؤذية المتوقعة. فمثلًا، قد يستمع الجنود الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة إلى أصوات المعارك عبر سماعات الرأس دون التعرض الفعلي للخطر. ومع التكرار، يتعلم الدماغ الفصل بين المثير والخطر، وبالتالي يقل الخوف أو يختفي.
إلا أن “العلاج بالتعرض” ليس ممكنًا دائمًا، خاصة في الحالات التي يكون فيها إعادة استحضار التجربة مؤلمًا وغير أخلاقي، كما في حالات الاعتداء والأذى. هنا يبرز الخيال كبديل واعد. فـ “الخيال الاسترشادي” يطلب من المرضى تكوين صور ذهنية لاستبدال المثيرات المادية، و”الخيال” يسمح لهم بالانغماس في هذه المثيرات بطريقة محكمة وبالوتيرة التي تناسبهم، مما يجعله أسلوبًا علاجيًا جديدًا ومبشرًا.
كيف يعمل سحر الخيال في تهدئة المخاوف؟
الخيال هو ببساطة محاكاة ذهنية للأحداث والأشياء التي لا نراها أو نشعر بها في تلك اللحظة. عندما ندرك العالم من حولنا، يبني دماغنا نسخة ذهنية لما نراه بناءً على المعلومات الحسية الواردة وتجاربنا السابقة. هذه التمثيلات الداخلية يمكن أن تتحول إلى ذكريات أو تُستخدم لتخيل سيناريوهات وهمية أو مستقبلية.
يستخدم الخيال مناطق دماغية مشابهة لتلك المستخدمة في الإدراك والذاكرة، مثل القشرة البصرية والسمعية (لتخيل الصور والأصوات) والحُصين (لاستخدام التجارب السابقة للتنبؤ). وعندما نتخيل شيئًا نخافه، تنشط نفس الشبكة الدماغية المسؤولة عن الاستجابة للخطر الحقيقي، بما في ذلك الاستجابات العصبية (تنشيط الذاكرة والمناطق الحسية) والسيكولوجية (مثل التعرق وتسارع دقات القلب).
ولكن، لعدم وجود خطر مباشر في حالة التخيل، فإن تكرار تخيل المثير المخيف في بيئة آمنة يساعد على الفصل بين المثير والخطر المتوقع، حيث أن كلاهما غائب في الواقع. هذا يضعف تدريجيًا الرابط العصبي بينهما، ويقلل بالتالي من الاستجابات العصبية والسيكولوجية المصاحبة للخوف.
نتائج مبهرة.. الخيال ينافس الواقع في علاج الخوف:
لتأكيد فعالية الخيال كبديل للعلاج بالتعرض، قام الباحثون بتدريب 66 مشاركًا على الخوف من مثير غير مؤذٍ نسبيًا عن طريق تعريضهم لصدمات كهربائية بسيطة أثناء سماعهم لنغمة عالية أو منخفضة. ثم قُسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات: تلقت المجموعة الأولى علاجًا بالتعرض التقليدي (سماع الأصوات دون صدمة)، وطُلب من المجموعة الثانية تخيل سماع الأصوات نفسها دون تلقي صدمة، بينما استمعت المجموعة الثالثة إلى أصوات طبيعية (شدو الطيور وخرير المطر) كجموعة تحكم.
بعد ذلك، تم تعريض جميع المشاركين للأصوات نفسها مرة أخرى ولكن هذه المرة مصحوبة بالخطر (الصدمات الكهربائية). استخدم الباحثون التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لقياس نشاط الدماغ وتحديد مدى استجابة كل مجموعة للخوف الناجم عن التهديد.
أظهرت النتائج المذهلة أن استخدام الخيال نجح بالفعل في الحد من الخوف الناجم عن التهديد، وكانت فعاليته مماثلة لتلك التي تحققت في المجموعة التي تلقت العلاج بالتعرض التقليدي. فمع تكرار تخيل المثير المخيف في بيئة آمنة، انخفضت الاستجابات الفسيولوجية ونشاط الدماغ المرتبط بالخطر بشكل ملحوظ. أما المجموعة الثالثة التي استمعت إلى الأصوات الطبيعية، فقد أبدت نفس مستوى الخوف عند إعادة تعرضها للخطر.
مستقبل واعد.. الخيال يفتح آفاقًا جديدة للعلاج:
لا يعد هذا البحث الوحيد الذي يوضح قوة الخيال وتأثيره المشابه للواقع. فقد استُخدم التخيل بنجاح لزيادة الشعور بالسعادة والتواصل مع الأحباء وتعزيز الثقة بالنفس تجاه الغرباء. والأكثر إثارة للدهشة هو أن الخيال مهارة قابلة للتدريب والتطوير.
يبدو أن الاحتمالات العلاجية للخيال لا حدود لها، وباعتبارها عملية منخفضة التكلفة من حيث الوقت والمال والآثار الجانبية المحتملة، يتطلع الباحثون إلى دمج هذه التقنيات بشكل أكبر في أساليب العلاج الحالية. ومع ذلك، تشدد الدراسة على ضرورة عدم محاولة العلاج الذاتي بالخيال، وضرورة اتباع توجيهات الخبراء المتخصصين، خاصة في حالات الذكريات المؤلمة غير المستقرة، حيث قد يؤدي استخدام الخيال بشكل غير صحيح إلى ذكريات زائفة وأعراض سلبية متزايدة.
في الختام، يمثل الخيال قوة هائلة تكمن في عقولنا، وقدرته على تجاوز الخوف والقلق تفتح آفاقًا جديدة ومبشرة في عالم العلاج النفسي. فبدلًا من المواجهة المباشرة المؤلمة، قد يكون مفتاح الشفاء يكمن في تسخير قوة عقولنا الداخلية وتحويل ساحة الخوف إلى ساحة آمنة للتعافي والنمو.
