ما حدث أمام مركز المساعدات الأمريكي غرب رفح ليس مجرد حادثة فردية يمكن تصنيفها كـ”خطأ عسكري” أو “إطلاق نار عرضي”، بل هو نتيجة مباشرة لسياق أوسع وأكثر تعقيداً يُعيد رسم مشهد العلاقة بين الجيش الإسرائيلي، المدنيين الفلسطينيين، والوجود الأمريكي في قطاع غزة، حتى وإن كان هذا الوجود بصيغة “مساعدات إنسانية”.
الجيش الإسرائيلي أطلق النار على مدنيين عزّل، في وضح النهار، أمام مركز توزيع مساعدات يُفترض أنه آمن وخاضع لرقابة أمريكية دولية. المشهد يوثّق المأساة بدقة: رجال ونساء وأطفال هرعوا بدافع الجوع والأمل، تحوّلت أجسادهم إلى أهداف مباشرة لرصاص موجّه بدقة، إصابات في الرأس والصدر، كما أكدت وزارة الصحة الفلسطينية. هذا النوع من الاستهداف لا يُفسَّر على أنه اشتباك، بل هو تصفية متعمدة لمجموعة من المدنيين يُفترض أن الحماية الدولية تكفل سلامتهم.
السؤال المركزي: كيف يحدث هذا أمام مركز يحمل الطابع الأمريكي دون أن تتحرك واشنطن؟
الإجابة تنقسم إلى شقّين:
أولاً: الصمت الأمريكي – تواطؤ مقنّع أم فشل في السيطرة؟
الولايات المتحدة، منذ بدء العدوان على غزة، تحاول اللعب على حبلين: دعمها المطلق لإسرائيل من جهة، ومحاولة حفظ صورتها الدولية كـ”راعٍ للسلام” و”مزود للمساعدات” من جهة أخرى. إنشاء مراكز مساعدات أمريكية جنوب غزة بدا وكأنه محاولة لتبييض هذا التناقض، لكن عندما تقع مجازر عند أبواب هذه المراكز دون أي رد فعل حقيقي، فإن الرسالة تكون واضحة: الوجود الإنساني الأمريكي لا يعني بالضرورة الحماية.
الولايات المتحدة لديها من النفوذ السياسي والعسكري ما يكفي لفرض قواعد اشتباك أكثر إنسانية على إسرائيل، لكنها تمتنع عن استخدامه، ما يجعل من صمتها تواطؤًا مقنّعًا، أو في أحسن الأحوال فشلاً استراتيجياً في إدارة حليفتها.
ثانياً: التكتيك الإسرائيلي – تحويل المساعدات إلى أفخاخ
إسرائيل تعي جيدًا رمزية مراكز المساعدات، ولذلك تعمد إلى تحويلها من رموز أمل إلى ميادين للموت الجماعي. الرسالة المُبطّنة هي: لا أمان لكم، لا في الحرب ولا في الجوع، لا في الليل ولا في وضح النهار. هذه الاستراتيجية تعمل على تفكيك ما تبقّى من النسيج المدني في غزة، وضرب الروح المعنوية للناس، وإضعاف أي أمل في البقاء.
ومن هنا تأتي خطورة الحادثة: عندما يُترك المدنيون فريسة لرصاص الاحتلال أمام مركز يرفع شعار المساعدات الأمريكية، فإن المعنى يتجاوز حدود الجريمة العسكرية؛ نحن أمام جرح في الثقة الدولية، وتآكل في شرعية أي وجود دولي يدّعي الحياد والإنسانية.
ختامًا، إذا لم تتحرك الولايات المتحدة فورًا لفتح تحقيق دولي شفاف، ووضع حد لاستهداف المدنيين أمام مراكز مساعداتها، فإن هذه المراكز ستُذكر في التاريخ لا كمبادرات إنسانية، بل كواجهات تغطّي على مجازر ممنهجة، تجري تحت عيون العالم وصمته.