يعيش الفلسطينيون واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخهم المعاصر، وفي ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية، وفي لحظة تاريخية دقيقة تتحرك الحكومة الفلسطينية بقيادة رئيس الوزراء محمد مصطفى بخطى دبلوماسية حثيثة على الساحة الدولية، في محاولة لبناء جبهة ضغط سياسي وإنساني على إسرائيل، واستعادة الحضور الفلسطيني كصوت سياسي مسؤول، قادر على قيادة المشهد، لا مجرد التفاعل مع تداعياته.
تدويل القضية الفلسطينية
اللقاء الأخير بين مصطفى ومستشارة الرئيس الفرنسي، آن كلير لوجندر، يعبّر عن هذا التوجه الجديد في أداء الحكومة، الذي يقوم على ثلاث ركائز واضحة: الدبلوماسية النشطة، توحيد المؤسسات، وخطة ما بعد الحرب. هذه ليست مجرّد تحركات رمزية، بل تعكس استراتيجية تحوّل تسعى فيها الحكومة إلى شغل المساحة التي ظلت لفترة طويلة مجمدة أو مشوشة بسبب الانقسام، والعزلة، وضعف أدوات التأثير.
أحد أهم أهداف هذا الحراك هو تدويل القضية الفلسطينية مجدداً، في توقيت حساس يشهد فيه العالم تحولات في المواقف الغربية، خصوصاً في أوروبا، حيال السياسة الإسرائيلية. الحكومة تسعى لاستثمار الزخم المتزايد من الإدانات الدولية للمجازر في غزة، والتذمر الأوروبي من تدهور الوضع الإنساني، لتحريك ملف العدالة الدولية، والدفع نحو مؤتمر دولي للسلام يقوده تحالف فرنسي-سعودي، تحاول السلطة أن تكون شريكاً فاعلاً فيه، وليس مجرّد طرف مدعو.
إعادة أموال الفلسطينيين
الرسالة التي حاول مصطفى إيصالها في لقائه مع الجانب الفرنسي تتجاوز الدعوة لوقف إطلاق النار، إلى تجديد التأكيد على جاهزية الحكومة لتحمّل مسؤولياتها في الضفة وغزة، من خلال خطة للتعافي، وإعادة الإعمار، وإنعاش الاقتصاد الفلسطيني بمجرد توقف العدوان. هذا الطرح لا يخدم فقط الأهداف الإنسانية، بل هو محاولة ذكية لإعادة بناء الثقة الدولية بالحكومة الفلسطينية كمؤسسة قابلة للحياة، وكممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في مواجهة محاولات تجاوزها من أطراف أخرى إقليمية أو دولية.
في موازاة ذلك، تولي الحكومة أهمية خاصة لمسألة الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل، والاقتطاعات غير القانونية من عائدات الضرائب. إعادة هذه الأموال ليست مجرد قضية مالية، بل خطوة استراتيجية لإثبات السيادة الفلسطينية في إدارة مواردها، وتحصين مؤسساتها من الابتزاز السياسي. هذه النقطة أصبحت جزءاً محورياً في اللقاءات الدبلوماسية، وتمثل أحد الخطوط الحمراء التي تحاول الحكومة الدفاع عنها بشراسة.
استعادة الزخم لمبدأ حل الدولتين
كما أن الحكومة تُدير غرفة عمليات حكومية تتولى ملف التدخلات الطارئة في غزة، بالتعاون مع المؤسسات الدولية. هذه الغرفة ليست فقط إطاراً تنفيذياً، بل أداة لإبراز الدور المدني والإنساني للحكومة، في ظل تصاعد الحاجة إلى مساعدات إغاثية عاجلة. وهذا التعاون يشكّل ركيزة للحشد الدولي، لأنه يضع الشركاء الدوليين أمام خيار واضح: إما دعم مؤسسة شرعية ومنظمة، أو ترك الفوضى تسيطر على ما تبقى من غزة المنكوبة.
أمّا على الصعيد السياسي، فتحاول الحكومة استعادة الزخم لمبدأ حل الدولتين، الذي عاد مجدداً للخطاب الأوروبي، خصوصاً في ظل شعور متزايد بأن إسرائيل تسعى لتقويض هذا الخيار بشكل نهائي عبر الاستيطان، والضم الفعلي، واستمرار العدوان. من خلال إبراز الاستعداد للإصلاح المؤسسي، والتوحيد بين الضفة وغزة، ترسل الحكومة رسالة مفادها أن وجود دولة فلسطينية ليس مجرد شعار، بل مشروع قابل للتطبيق إذا توفرت الإرادة الدولية.
إعادة تثبيت فلسطين كقضية سياسية
لكنّ هذا المسار يبقى محفوفاً بالتحديات. فالحكومة الفلسطينية لا تعمل في فراغ، بل في ظل احتلال عسكري، وانقسام داخلي، وواقع إقليمي شديد التعقيد. ومع ذلك، فإن ما تقوم به حالياً من تحركات على المستوى الدولي يُعد من أقوى محاولات إحياء الدور الفلسطيني الرسمي منذ سنوات. الحكومة تعرف أن المعركة لم تعد تُخاض فقط في الميدان، بل في صالونات القرار، وعلى منابر السياسة الدولية، وبين أوراق المؤتمرات والموازنات.
وفي لحظة تشهد فيها القضية الفلسطينية تعاطفاً متصاعداً في الشارع الدولي، وإشارات تحول في مواقف بعض العواصم الأوروبية، قد يكون هذا الحراك فرصة لا تُعوّض لإعادة تثبيت فلسطين كقضية سياسية بامتياز، لا مجرد ملف إنساني طارئ يُفتح ويُغلق حسب حجم الدمار.