في خضم التوترات التجارية التي اندلعت خلال رئاسة دونالد ترامب، شكّلت التعريفات الجمركية الأمريكية على البضائع الصينية واحدة من أبرز معالم سياسة “أمريكا أولًا”، والتي سعت إلى تقليص العجز التجاري الأمريكي وإجبار الصين على إعادة التفاوض حول شروط التبادل التجاري. هذه السياسات لم تكن مجرد أدوات اقتصادية، بل حملت أبعادًا جيوسياسية أعمق، إذ مثّلت محاولة لفرملة الصعود الصيني والحد من قدراته التكنولوجية. أمام هذه الضغوط، وجدت بكين نفسها في موقف معقد، إذ عليها الرد بطريقة لا تُعرض اقتصادها للانهيار، ولا تُظهر ضعفًا أمام جمهورها الداخلي أو شركائها الدوليين.
شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدًا لافتًا في وتيرة هذه الحرب التجارية، بعدما ردّت الصين على رفع البيت الأبيض التعريفات الجمركية على منتجاتها بنسبة 104%، بزيادة تعريفتها الانتقامية إلى 84% بدلاً من 34% كما كان مقرراً في الأصل. هذه الخطوة جاءت بعد تجاهل بكين لمهلة أمريكية لإلغاء التعريفات الانتقامية السابقة، ما دفع إدارة ترامب إلى الرد برفع جديد وفوري في الرسوم لتصل إلى 125%. هذا التصعيد المتبادل كسر قواعد اللعبة القديمة القائمة على الردود المحسوبة، ودفع بالعلاقات التجارية بين القوتين إلى مرحلة جديدة من المواجهة العلنية والمفتوحة.
لم تعد الصين تلجأ إلى الرد الرمزي أو التكنوقراطي فحسب، بل باتت تستخدم الأدوات الجمركية بشكل أكثر جرأة. رفع التعريفات إلى 84% يكشف تحوّلًا استراتيجيًا في مقاربة بكين، التي قررت الانتقال من سياسة الاحتواء إلى سياسة الردع الاقتصادي. هذا التوجه يشي بأن بكين لم تعد ترى في التهدئة أولوية، بل بدأت تنظر إلى الصراع التجاري كصراع وجودي يحدد مستقبل موقعها في النظام العالمي.
لكن هذه الخطوة التصعيدية لم تكن معزولة عن باقي أدوات الرد الصيني. فعلى المدى الأوسع، ظلت بكين تعمل على تقليل اعتمادها على السوق الأمريكية، من خلال تعميق اتفاقياتها التجارية في آسيا وأوروبا، وتعزيز الشراكة مع دول الجنوب العالمي. المبادرات مثل “الحزام والطريق” و”الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” لم تكن مجرد بدائل اقتصادية، بل مثّلت جزءًا من استراتيجية تطويق الولايات المتحدة تجاريًا، وبناء نظام بديل متعدد الأقطاب لا تهيمن عليه واشنطن.
التصعيد الأمريكي الأخير، والذي رفع التعريفات إلى مستوى غير مسبوق (125%)، كان بمثابة إعلان لحرب اقتصادية شاملة، وليس مجرد أداة ضغط تفاوضي. الصين، بدورها، لم تكتفِ بالرد الجمركي، بل أرسلت إشارات واضحة إلى الأسواق بأنها قادرة على تحمّل صدمات مماثلة، حتى لو تطلب ذلك قبول خسائر اقتصادية مؤقتة. وهذا يشير إلى أن بكين تعوّل على قدرة اقتصادها الداخلي في امتصاص الضغوط، وتعزيز الاعتماد على السوق المحلية عبر استراتيجية “التداول المزدوج” التي أطلقتها في السنوات الأخيرة.
وفيما يتعلق بالتكنولوجيا، فإن القيود الأمريكية على شركات مثل هواوي ومراكز تصنيع الرقائق قد دفعت بالصين إلى تسريع برامج الاكتفاء الذاتي، خصوصًا في الصناعات الحيوية، لتفادي الوقوع ضحية لابتزاز تقني في المستقبل. ورغم أن هذا التوجه لا يعطي ثماره الفورية، إلا أنه يعكس رغبة الصين في فك الارتباط التدريجي مع المنظومة التكنولوجية الغربية، وبناء منظومة موازية مستقلة.
وفي خضم هذا التصعيد الجمركي، تظل العملة أحد الأوراق الاستراتيجية التي قد تلجأ إليها الصين بشكل انتقائي، إما عبر تخفيض قيمة اليوان لدعم تنافسية صادراتها، أو عبر إدارة ذكية لسلة العملات التي تتعامل بها، للحد من آثار الدولار الأمريكي على تجارتها الخارجية.
في المحصلة، لم تعد الصين تسير على حافة الحرب التجارية، بل دخلت قلب المعركة، وهي تفعل ذلك مدفوعة بشعور أن هذه الحرب تتجاوز مجرد أرقام التعريفات ونسب التبادل، إلى ما هو أعمق: صراع على المكانة، والسيادة الاقتصادية، وترسيم النظام العالمي المقبل. وفي هذه المعركة، اختارت بكين أن ترد بالمثل، ولكن أيضًا أن تعيد تشكيل بنيتها الاقتصادية بطريقة تجعلها، في المستقبل، أقل هشاشة وأكثر قدرة على المواجهة.