تشهد مفاوضات الهدنة في قطاع غزة جموداً غير مسبوق، بعد أن كانت في طريقها لتحقيق اختراقات، بفعل الوساطات المكثفة من مصر وقطر والولايات المتحدة. غير أن اندلاع المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، بتبادل الضربات العسكرية، أدّى إلى قلب الأولويات الإقليمية والدولية، وجرّد ملف غزة من زخمه السابق، في ظل انشغال الوسطاء والفاعلين الدوليين باحتواء تصعيد أكثر خطورة اتساعاً على مستوى المنطقة.
غياب الاهتمام عن غزة
في الأيام التي سبقت التصعيد، كانت هناك إشارات متزايدة من أطراف الوساطة، خصوصاً مصر وقطر، إلى قرب الوصول إلى توافق مبدئي بشأن وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما عبّرت عنه تصريحات لوفد حركة «حماس» المفاوض في الدوحة، والمكتب الإعلامي الدولي القطري، الذي وصف المفاوضات بأنها تمر بمرحلة “دقيقة” تكاد تلامس تقدماً فعلياً. لكن تلك الإشارات لم تلبث أن اختفت، بل تحولت إلى نبرة تشاؤم، بعد تنفيذ إسرائيل ضربات نوعية ضد أهداف إيرانية داخل طهران، وهو ما استتبع ردوداً صاروخية إيرانية، وأحدث تصعيداً عسكرياً خطيراً لم تشهد له المنطقة مثيلاً منذ عقود.
المشهد الإقليمي الذي تبدّل خلال ساعات، انعكس مباشرة على الملف الفلسطيني. وأصبح واضحاً أن غزة لم تعد أولوية على جدول أعمال القوى الدولية، بل تحوّلت إلى ساحة ثانوية، كما وصفها مسؤول عسكري إسرائيلي لصحيفة «هآرتس». هذا التوصيف يعكس بجلاء إعادة التموضع الإسرائيلي، الذي بات يرى أن ساحة المواجهة الحقيقية، ذات التأثير الاستراتيجي، تقع الآن في طهران وليس غزة، رغم استمرار العدوان على القطاع.
تراجع فرص حماس في المفاوضات
وفي موازاة ذلك، تتجه جهود الوسطاء – وفي مقدمتهم مصر – إلى منع انزلاق المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية إلى حرب شاملة، وهو ما ظهر في التحركات الدبلوماسية المكثفة التي قادها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع عدد من نظرائه في المنطقة وأوروبا، للتأكيد على ضرورة خفض التصعيد واحتواء الموقف. ولم تكن هذه الجهود بعيدة عن الدعم الأميركي، الذي أبدى من خلال اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأمير قطر، استعداده للمشاركة في تسوية الأزمة الإقليمية، في مؤشر على أن واشنطن هي الأخرى باتت ترى أن وقف التصعيد الإيراني – الإسرائيلي هو البوابة لأي استقرار قادم، بما في ذلك في غزة.
وفي ظل هذا السياق، يصبح من الواضح أن مصير مفاوضات التهدئة في القطاع بات رهناً بمآلات الحرب الأوسع نطاقاً. فكما يشير الدكتور سعيد عكاشة، الخبير في الشؤون الإسرائيلية، فإن الجبهة الفلسطينية لن تعود إلى مركز الاهتمام إلا إذا حدث تحول نوعي في الحرب مع إيران، سواء بانتهائها أو ببلورة تسوية إقليمية شاملة. ويضيف أن فرص حماس في المفاوضات قد تتراجع أكثر إذا تلقت إيران خسائر كبيرة، لأن تراجع طهران سيضعف المحور الذي تنتمي إليه الحركة، وقد يعيد ترتيب شروط التفاوض من جديد على نحو أكثر تشدداً إسرائيلياً، خاصة فيما يتعلق بنزع سلاح الفصائل ورفض بقاء حماس في الحكم.
من جانبه، يرى المحلل السياسي الفلسطيني إبراهيم المدهون، أن لا مفاوضات تُجرى حالياً بشأن غزة، وأن الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران أثرت جذرياً على مسار التهدئة. ويؤكد أن تقدير حماس للموقف يتم على أساس أن المعركة واحدة، سواء دارت في طهران أم في غزة، ما يعني أن الحركة تترقب نتائج هذه الجولة الإقليمية لترسم على ضوئها خطواتها المقبلة.
غزة رهينة الحسابات الإقليمية
في ضوء ما سبق، فإن مستقبل مفاوضات الهدنة في غزة يظل معلقاً على ميزان المواجهة بين إسرائيل وإيران. فإذا نجحت المساعي الدبلوماسية في وقف التصعيد وبدأت المنطقة تتجه إلى ترتيبات أمنية جديدة، فستعود غزة إلى الواجهة باعتبارها جزءاً من هذا الحل. أما إذا استمرت الحرب أو حققت إسرائيل فيها تفوقاً عسكرياً كبيراً، فإن الضغوط على حماس ستتضاعف، وقد تجد نفسها أمام شروط تفاوضية أكثر قسوة، أو حتى سيناريوهات عزل أو تصعيد أكبر.
من غير المتوقع أن تعود مفاوضات الهدنة إلى مسارها السابق في المدى القريب، ما لم يحدث تحول دراماتيكي في الحرب الأوسع، يعيد ترتيب الأولويات ويعيد غزة إلى صدارة الاهتمام الدولي. حتى ذلك الحين، ستبقى جراح القطاع مفتوحة، رهينة لما تسفر عنه الحسابات الإقليمية الكبرى.