تُعد المبادرة الوطنية للتشغيل والتمكين الاقتصادي، التي أطلقتها الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد مصطفى، خطوة استراتيجية تهدف إلى مواجهة تحديات البطالة المتفاقمة في ظل الواقع السياسي والاقتصادي المعقّد الذي تعيشه فلسطين، خصوصًا بعد تصاعد العدوان الإسرائيلي وما خلّفه من تدمير للبنى الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في قطاع غزة، وقيود خانقة في الضفة الغربية.
حجم الكارثة الاقتصادية
تركيز رئيس الوزراء على ربط التشغيل بالتمكين الاقتصادي وريادة الأعمال يعكس توجّهًا لتجاوز المعالجات التقليدية لأزمة البطالة، نحو إرساء بنية اقتصادية قادرة على الصمود والانفكاك التدريجي عن الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي، خاصة في ما يتعلق بسوق العمل. هذا التوجّه يحمل بعدًا سياسيًا واقتصاديًا في آنٍ معًا، إذ يهدف من جهة إلى تحفيز النمو المحلي، ومن جهة أخرى إلى تقليص هامش الضغط الإسرائيلي المستمر من خلال التحكم في تصاريح العمل.
البيانات التي قدمتها وزيرة العمل تشير إلى حجم الكارثة الاقتصادية التي تواجهها فلسطين حاليًا، حيث تجاوزت نسبة البطالة العامة 52%، مع معدلات صادمة في غزة تفوق 80%. الأرقام الصادرة عن خسارة أكثر من 507,000 وظيفة منذ أكتوبر 2023، تضع الحكومة أمام تحدٍ غير مسبوق، يتطلب سياسات تشغيل طارئة إلى جانب مشاريع طويلة الأجل.
توفير بيئة سياسية داعمة
ما يميّز هذه المبادرة هو شموليّتها من حيث القطاعات المستهدفة والفئات الاجتماعية، حيث لا تقتصر على التشغيل المؤقت، بل تشمل تطوير التدريب المهني، دعم الشركات الناشئة، الاستثمار في العمل الرقمي والعمل عن بُعد، وبناء مراكز تدريب حديثة. التركيز على مشاركة النساء وذوي الإعاقة بنسبة لا تقل عن 50% يعكس بعدًا اجتماعيًا مهمًا يسعى إلى العدالة في توزيع الفرص وتمكين الفئات الهشة، وهو ما ينسجم مع معايير التنمية المستدامة.
رغم الطابع التنموي للمبادرة، إلا أن نجاحها يبقى مرهونًا بعدة عوامل خارجية وداخلية. على المستوى الداخلي، يتطلب الأمر تنسيقًا فعّالًا بين الوزارات والمؤسسات والقطاع الخاص، وتجاوز البيروقراطية التي لطالما أعاقت مشاريع مشابهة. أما خارجيًا، فالدعم الإقليمي والدولي سيكون حاسمًا، سواء على صعيد التمويل أو في توفير بيئة سياسية داعمة قادرة على حماية هذه المبادرات من تدخلات الاحتلال أو تقويضها.
سياسات تشغيل وطنية
المبادرة، وإن كانت اقتصادية في ظاهرها، تحمل بُعدًا وطنيًا أعمق، فهي محاولة لإعادة الثقة بدور الحكومة، وتثبيت صمود المواطن الفلسطيني عبر أدوات اقتصادية بدلًا من الشعارات السياسية فقط. كما أنها تعبّر عن إدراك متزايد لدى صناع القرار في فلسطين بأن الاقتصاد ليس مجرد أداة للعيش، بل أحد أهم أركان المواجهة والثبات السياسي في ظل احتلال يحاول تجويع المجتمع لكسر إرادته.
بالتالي، فإن المبادرة تمثل بداية جدية نحو رسم سياسات تشغيل وطنية ترتكز على الابتكار، الشمول، والعدالة، وتشكّل في حال نجاحها نموذجًا قابلًا للتطوير والتكرار في دول تعاني من ظروف استثنائية مشابهة.