تصريحات اللواء الاحتياط إسحاق بريك تمثل جرس إنذار مدويًا في قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وتفتح بابًا عريضًا على فضيحة مهنية وأخلاقية تهز صورة الجيش الذي لطالما سعت إسرائيل إلى تقديمه كنموذج للانضباط والفعالية. بريك، الذي يتمتع بخبرة طويلة في المناصب العسكرية العليا، لا يوجه نقدًا هامشيًا أو من موقع سياسي معارض، بل يتحدث من داخل البيت العسكري ذاته، ويدين بوضوح ما وصفه بثقافة “التضليل الممنهج” التي تمارسها وحدة المتحدث باسم الجيش، بدعم صريح من القيادة العليا.
تدمير شامل لقدرات حماس
ما يكشفه المقال المنشور في صحيفة “معاريف” لا يمكن فصله عن نتائج الأداء الميداني للجيش الإسرائيلي في غزة. فبينما تروج القيادة العسكرية لانتصارات مفترضة وتدمير شامل لقدرات حماس، فإن الروايات الميدانية من الجنود والضباط، كما ينقلها بريك، تكشف عن صورة معاكسة تمامًا: قوات المقاومة ما زالت نشطة، البنية التحتية العسكرية لحماس لم تُدمّر، والأنفاق لا تزال تشكل عمودًا فقريًا للعمليات القتالية، دون أن يتمكن الجيش من إنهائها أو حتى الحد من استخدامها بشكل فعال.
الخطورة لا تكمن فقط في الفجوة بين الرواية الرسمية والحقيقة، بل في الأثر الكارثي الذي يتركه هذا التضليل على صعيد صناعة القرار السياسي والعسكري، وعلى ثقة الجمهور الإسرائيلي نفسه بمؤسساته. فحين تُختلق النجاحات وتُخفى الإخفاقات، يصبح من المستحيل التقييم السليم للمخاطر، ويُزج بالدولة في مغامرات عسكرية دون رؤية واقعية أو مخرج استراتيجي. هذا النمط من القيادة، كما يحذر بريك، لا يقود إلى الحسم، بل إلى التورط الطويل في مستنقع مكلف بشريًا واقتصاديًا وسياسيًا.
إخفاق الجيش الإسرائيلي
تصريحات بريك تكتسب أهمية خاصة في ظل إخفاق الجيش الإسرائيلي حتى الآن في تحقيق هدفين كانا معلنين منذ بداية الحرب: القضاء على حركة حماس، وتحرير جميع الأسرى. واليوم، بعد تسعة أشهر من القتال المدمر، لا تزال الحركة تملك زمام المبادرة في كثير من المناطق، ولا يزال الأسرى الإسرائيليون محتجزين في ظروف غامضة، مع تزايد المؤشرات بأن جزءًا منهم قد لا ينجو على الإطلاق، في ظل العمليات العسكرية العشوائية والضربات المكثفة التي تطال كل شيء في القطاع.
النقد الذي وجهه بريك للصحفيين والمحللين العسكريين الذين ينقلون تصريحات الجيش دون تمحيص، يسلط الضوء أيضًا على أزمة أعمق في الإعلام الإسرائيلي، الذي تحوّل في جزء منه إلى بوق ترويجي، بدلًا من أن يكون سلطة رقابية تسائل الأداء وتكشف الحقيقة. هذا التحالف غير المعلن بين المؤسسة العسكرية والإعلام الموالي لها، يعمّق من فقدان الثقة ويُشرعن استمرار الحرب رغم افتقادها لأي جدوى واضحة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى خداع الجمهور وتضليل المجتمع الإسرائيلي بأكمله.
في الوقت الذي تتصاعد فيه أعداد الضحايا في غزة، وتدخل المجازر الإسرائيلية في القطاع صفحات التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية منذ الحرب العالمية الثانية، يتكشّف داخل إسرائيل نفسها حجم الأزمة البنيوية في طريقة إدارة الحرب. فالمؤسسة العسكرية، بدلًا من مراجعة ذاتها وتصحيح أخطائها، تواصل الترويج لنجاحات وهمية، وتدفع باتجاه استنزاف طويل الأمد للجيش والمجتمع، في وقت تتآكل فيه القدرة على الحسم، وتنعدم فيه القدرة على تحقيق أهداف الحرب، كما صرّح بريك بوضوح.
انهيار تدريجي في أركان السردية الإسرائيلية
الرسالة التي يبعث بها بريك ليست فقط عسكرية أو إعلامية، بل سياسية أيضًا. فهو يدعو إلى إنهاء الحرب عبر اتفاق يعيد الأسرى ويوقف القتال، ويبدأ عملية ترميم شاملة للجيش والدولة. وفي ذلك تأكيد على أن الطريق الذي تسلكه الحكومة الحالية، بقيادة نتنياهو، والقيادة العسكرية، بقيادة رئيس الأركان، لا يقود إلى نصر، بل إلى كارثة إستراتيجية شاملة، ما لم يتم التصحيح الجذري في النهج والخطاب والتقييمات.
ما يعكسه هذا المقال هو انهيار تدريجي في أركان السردية الإسرائيلية الرسمية، وبداية تفكك داخلي في بنية التماسك المجتمعي والثقة بين الجيش والجمهور. وفي ظل تعاظم التكاليف البشرية والاقتصادية للحرب، يبدو أن صوت إسحاق بريك ليس مجرد تحذير فردي، بل تمهيد لانفجار أكبر داخل المؤسسة الإسرائيلية نفسها، في مواجهة واقع لا يمكن تغطيته بالدعاية إلى الأبد.