في أحد أجنحة مستشفى الشفاء بمدينة غزة، يرقد الطفل سند أبو سلعة، بعينين ذابلتين لا تشبهان عيون الأطفال، بل عيون من رأى الموت واقترب منه كثيرًا… ثم نجا، ولكن بجراح لا تُشفى. يبلغ سند من العمر عشر سنوات فقط، لكنه عاش في سنواته القليلة ما لا تحتمله قلوب الرجال، وما يعجز الكبار عن تخيله، وما لا يجب أن يعانيه أي طفل على وجه الأرض.
أوجاع الطفل سند
في يومٍ عادي كغيره من أيام النزوح، خرج سند مع والده إلى أطراف جباليا لجمع الحطب. لم يكن هناك طعام ولا غاز للطبخ، وكان البرد ينهش خيام النازحين، فقررا أن يغامرا قليلاً بحثًا عن وسيلة للدفء. لكنها كانت مغامرة بثمن لا يُحتمل. صاروخ سقط فجأة، نثر النار والموت والرماد حولهما، وأخذ من سند شيئًا لا يُعوَّض.
أُسعف سند إلى مستشفى الشفاء وسط صراخ الأهالي، غارقًا في الدم والتراب. فُقدت ساقه اليمنى. وفقد أيضًا أعضاءه التناسلية. لم يفقد فقط القدرة على الركض واللعب، بل فقد ملامح طفولته، وجسده الذي كان ما يزال ينمو. استيقظ من غيبوبته ليجد نفسه ناقصًا، مشوهًا، غير قادر على المشي، ولا على أن يكون كغيره من الأطفال. لكنه لم يكن وحده… فهناك أطفال كُثر في غزة، يتقاسمون الوجع ذاته، وإن اختلفت التفاصيل.
خنادق مقاومة للموت
يعيش سند اليوم في عزلة، ليس فقط بسبب جراحه الجسدية، بل بسبب ما تحمله روحه الصغيرة من صدمة وعجز. لا أدوية كافية لتخفيف ألمه. لا معابر مفتوحة ليُسافر ويتلقى العلاج. لا أمل واضح في ترميم ما دُمر. وحتى الرعاية النفسية، التي هي حقٌّ أساسي، ترفٌ لا يُتاح لطفل في غزة، المدينة المحاصرة التي تحوّلت مستشفياتها إلى خنادق مقاومة للموت لا للحياة.
أطفال غزة مثله يولدون تحت النار، يكبرون وسط الأنقاض، يدرسون في مدارس تحوّلت إلى ملاجئ، وتلاحقهم الطائرات حتى في نومهم. لا خيار لهم سوى النجاة، ولو بأطراف مبتورة، أو وجوه محترقة، أو أحلام قصيرة الأجل. العالم يراهم أرقامًا في نشرات الأخبار، لكنهم في الحقيقة قصص حية من الألم، وطفولة منتهكة.
جريمة لا تسقط بالتقادم
سند واحد من آلاف، لكن اسمه يبقى شاهدًا على جريمة لا تسقط بالتقادم. قصة فقدٍ ممتد، ليس فقط لساق أو لعضو، بل لطفولة كاملة، لحياة تُغتال وهي في بدايتها. سند لم يكن يحارب، ولم يحمل سلاحًا. كان فقط يريد أن يُدفئ نفسه بالحطب. لكن الاحتلال قرر أن الحطب جريمة، وأن الطفل هدف.
في غزة، لا تكبر الأحلام كما ينبغي. تكبر الطفولة مشوهة، مكسورة، متعبة. ومع ذلك، سند ما زال يتنفس… وربما، يومًا ما، يركض من جديد في ذاكرة غزة التي لا تنسى أبناءها.