تشير الوقائع الميدانية والتصريحات الرسمية المتداولة إلى أن “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي تم استحداثها كبديل عن “الأونروا”، لا تعمل ضمن إطار إنساني خالص كما تدّعي، بل بات واضحاً أنها أداة سياسية وأمنية إسرائيلية تحمل في طياتها أبعاداً خطيرة على الصعيدين الإنساني والأمني في قطاع غزة. تأسيس هذه المؤسسة وسط حرب شعواء، وتحت حماية مباشرة من جيش الاحتلال، وفي ظل تغييب أي آلية شفافة لتمويلها أو مراقبة نشاطها، يضع علامات استفهام جدية حول أهدافها الحقيقية، ومدى التزامها بالمعايير الدولية للعمل الإغاثي.
تواطؤ مؤسسة غزة
ما يعزز هذا القلق هو التحوّل المتكرر لمراكز توزيع المساعدات التي تُشرف عليها المؤسسة إلى مواقع مجازر مفتوحة ضد المدنيين. منذ 27 مايو، قُتل أكثر من 110 فلسطينيين وأُصيب 583 آخرون أثناء محاولاتهم الحصول على الغذاء. هذه الإحصائيات المروعة لا يمكن تفسيرها بأنها “أخطاء” أو “حوادث عرضية”، بل توحي بأن عمليات التوزيع، كما تتم حالياً، تستخدم كوسيلة جذب مميتة للفلسطينيين الذين جوعهم الحصار، ثم يُستهدفون عسكرياً في تلك النقاط بحجج أمنية واهية.
تُظهر المؤسسة قدراً كبيراً من التواطؤ، سواء عبر صمتها حيال هذه المجازر، أو من خلال محاولاتها إلصاق الفشل بحركة “حماس”، رغم أنها تعمل تحت غطاء إسرائيلي مباشر. استخدام ذريعة “التهديدات من حماس” كمبرر لوقف التوزيع أو تعديل الآليات، يتجاهل الحقائق على الأرض، ويُعيد توجيه اللوم بعيداً عن المسؤول المباشر: الاحتلال، الذي يسيطر على المعابر، ويحاصر القطاع، ويشرف على العمليات الميدانية لمراكز التوزيع.
منظومة قمع جديدة باسم الإنسانية
الوضع الإنساني في غزة تجاوز حدود الكارثة. لا توجد مؤشرات على وجود نية صادقة لدى الاحتلال لتسهيل الإغاثة، بل على العكس، يبدو أن إدارة الجوع باتت أداة في المعركة، تُستخدم للضغط على المقاومة، وتحطيم الروح المعنوية للمدنيين. أما الأمم المتحدة، فدورها محدود ومكبّل، رغم اعترافها بأن ما يدخل القطاع هو “قطرة في محيط” احتياجاته.
في ضوء ذلك، يصعب تصور “مؤسسة غزة الإنسانية” كمجرد جهة إغاثية فشلت في أداء مهمتها، بل باتت تُنظر إليها كجزء من منظومة قمع جديدة، تُدار بأسلوب ناعم في الظاهر، ولكنها تخفي أدوات قتل وتجويع في الجوهر. هذه المؤسسة، وإن حملت اسم “الإنسانية”، تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن معناها الحقيقي، وتتحول تدريجياً إلى رمز لأحد أوجه الحرب الحديثة: حيث يُستخدم الخبز كطُعم، والرصاص كوسيلة إدارة للضحية.