في الوقت الذي تشهد فيه الساحة العراقية تحولات دقيقة تتعلق بتوازناتها الإقليمية ومساراتها الاقتصادية، تبرز الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بغداد كعلامة فارقة في مسار العلاقات بين فرنسا والعراق. زيارةٌ لا تبدو بروتوكولية بقدر ما تحمل طابعًا استراتيجيًا واضحًا، لاسيما في ما يتعلق بطموحات باريس الاقتصادية داخل بلد غني بالنفط يعاني منذ سنوات من اختلالات عميقة في بنيته التحتية وسياسته الطاقية.
تسعى فرنسا، عبر هذه الزيارة، إلى ترسيخ نفوذها في العراق كلاعب اقتصادي مؤثر، مستفيدةً من حالة الفراغ التي تركتها شركات غربية أخرى انسحبت تحت ضغط المخاطر الأمنية أو تعقيدات المشهد السياسي. ومن بين أبرز الملفات المطروحة على طاولة ماكرون، مشروع الشراكة مع شركة “توتال إنرجيز”، التي تخوض بالفعل واحدة من أضخم الاستثمارات في تاريخها في العراق، حيث يبلغ حجم الاتفاق الموقع منذ 2021 نحو 27 مليار دولار.
هذه الاستثمارات لا تدور فقط حول النفط، رغم أن تطوير حقل الرطاوي الجنوبي يحتل صدارة المشهد، بل تشمل أيضًا معالجة الغاز المصاحب، وبناء محطة لتحلية المياه، وإقامة منشآت للطاقة الشمسية في جنوب العراق، في خطوة تعبّر عن رغبة فرنسية في المزج بين الاستفادة من الثروات التقليدية وتقديم نفسها كشريك موثوق في التحول إلى الطاقة النظيفة.
إن زيارة ماكرون، التي جاءت بعد استقبال رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لوزير الخارجية الفرنسي، تُمثّل محاولة لإعادة ضبط البوصلة الفرنسية في المنطقة، عبر استثمار رصيد سياسي تراكم بفعل مواقف باريس المتوازنة من قضايا الشرق الأوسط، وأيضًا عبر التقدم بخطوات عملية نحو عقود طويلة الأمد، تضمن تدفق النفط العراقي مقابل نقل التكنولوجيا والخبرة الفرنسية.
لكن التحديات التي قد تواجه هذه الطموحات ليست قليلة. فالعراق ما زال بلدًا يعاني من التداخل بين المصالح السياسية المحلية والإقليمية، ما يعرقل أحيانًا تنفيذ المشاريع الكبرى. كما أن المخاطر الأمنية، وغياب إصلاحات جدية في مجال البنية القانونية وحوكمة الموارد، تبقى نقاط قلق حقيقية بالنسبة لأي مستثمر أجنبي، مهما كانت خلفيته أو حجمه.
مع ذلك، يبدو أن ماكرون يراهن على متغيرات جديدة في المزاج السياسي العراقي، وعلى وجود حكومة برئاسة محمد شياع السوداني تبدو أكثر انفتاحًا على عقد شراكات ذات بعد استراتيجي طويل الأمد، بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية. من هنا، فإن ما يحمله الرئيس الفرنسي في حقيبته لن يكون مجرد ملفات سياسية، بل عقود وفرص اقتصادية، يحاول عبرها تحويل العراق إلى حليف اقتصادي دائم لفرنسا في منطقة الشرق الأوسط.
إذا نجحت هذه الزيارة في ترجمة الطموحات إلى مشاريع فعلية على الأرض، فإنها قد تشكل بداية لعصر جديد من العلاقات الاقتصادية بين بغداد وباريس، يكون فيه العراق منصةً للطموحات الفرنسية في المنطقة، ويكون فيه لفرنسا دور أكبر في إعادة إعمار بلدٍ طالما كان ساحة تنافس إقليمي، أكثر منه شريكًا اقتصاديًا مستقلاً.