بعد سنوات من الجفاء الدبلوماسي الذي أعقب انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، حملت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة المتحدة بشائر ترميم تدريجي للعلاقات الثنائية التي تضررت بشكل ملحوظ بعد “البريكست”. ثلاثة أيام كاملة قضاها ماكرون في لندن، حملت طابعًا استثنائيًا سواء من حيث الرمزية أو النتائج، وسط استقبال بريطاني لافت عكس رغبة حكومة كير ستارمر في فتح صفحة جديدة مع باريس.
فبينما رفرفت الأعلام في أجواء مشمسة نادرة، وتزينت المؤسسات الرسمية البريطانية بعبارات الترحيب، أُعلن رسميًا عن الاتفاق التجريبي “دخول واحد وخروج واحد” المتعلق بعمليات عبور القنال الإنجليزي، في ما اعتبره البعض إنجازًا شكليًا، وآخرون بداية لإعادة هيكلة العلاقة بين الجارين الأوروبيين.
القوارب الصغيرة… أزمة كبيرة في الوعي السياسي البريطاني
رغم أن قضايا التعاون الدفاعي والتكامل النووي التي ناقشها الطرفان تحمل أهمية إستراتيجية بعيدة المدى، فإن الاتفاق الجديد تمحور أساسًا حول ملف الهجرة غير النظامية، وبالتحديد القوارب الصغيرة التي تنطلق من السواحل الفرنسية نحو بريطانيا. ولئن بدا عدد المهاجرين محدودًا نسبيًا من الناحية الرقمية، فإن رمزية هذه القوارب باتت تختزل الإخفاق السياسي لحكومة ستارمر في ملف الهجرة، وهو ما جعله يتعامل مع القضية بلهجة استعجالية قبيل القمة الفرنسية – البريطانية.
نجحت لندن في إقناع باريس باتفاق، ولو محدود، لإعادة عدد لا يتجاوز 50 شخصًا أسبوعيًا إلى الأراضي الفرنسية، في مقابل استقبال حالات لمّ شمل من فرنسا إلى بريطانيا. لكن هذه الآلية، التي رُوّج لها على أنها “حل ثوري”، تبقى محاطة بأسئلة قانونية وأخلاقية وتنفيذية معقدة.
تجربة محدودة… أم ورقة ضغط دبلوماسية؟
الاتفاق الذي وصفته حكومة ستارمر بـ”التاريخي” لا يعدو كونه مشروعًا تجريبيًا، وفقًا لتعبير غامض استخدمه رئيس الوزراء بنفسه، ما يعكس هشاشة الالتزام الفرنسي الفعلي مقارنة بالحماسة البريطانية الواضحة. ففي حين تأمل لندن أن يشكل الاتفاق رادعًا للمهاجرين، فإن المصالح الفرنسية تبدو أكثر برودًا، إذ أن وجود مخيمات المهاجرين في شمال فرنسا لا يمثل أزمة وطنية طاغية كما هو الحال في بريطانيا.
ولعلّ المفارقة الأوضح تكمن في أن فرنسا لا تمانع فعليًا في مغادرة المهاجرين أراضيها، ما يعني أن الضغط السياسي الحقيقي في هذه المعادلة يبقى بريطانيًا بامتياز.
المعضلة الأخلاقية… من يملك حق مغادرة الضفة؟
في هذا السياق، يطرح الاتفاق أسئلة أخلاقية حرجة: هل يُعقل أن تقوم دولة ديمقراطية بتمزيق قوارب مهاجرين لمجرد أنهم يحاولون المغادرة؟ وإذا تقبل الرأي العام البريطاني هذا المشهد حين تقوم به فرنسا، فهل كان سيتقبله لو صدر عن تركيا أو روسيا؟ تجاهل هذه المعضلة الأخلاقية لا يلغي وجودها، بل يزيد من هشاشة الأساس الذي يقوم عليه الاتفاق.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن نظام “دخول واحد وخروج واحد” قد يخلق ثغرات قانونية جديدة، تسمح لبعض أفراد العائلات الذين لا يستوفون شروط لمّ الشمل بالدخول إلى المملكة المتحدة، ما قد يقوّض الأطر القانونية الحالية ويثير الجدل حول سيادة القرار الداخلي.
خطوة سياسية بمفعول علاقات عامة؟
من الناحية الواقعية، تبقى الأعداد المعنية بالاتفاق ضئيلة، ولا يبدو أن المشروع التجريبي قادر فعليًا على وقف الزخم المتزايد لتدفّق المهاجرين أو تقويض شبكة المهربين التي تعتمد على نموذج القوارب.
وبينما تأمل حكومة ستارمر أن يقدم الاتفاق دعمًا سياسيًا ضروريًا في لحظة حرجة، فإنها تعرض نفسها لخطر فشل معلن إذا لم تظهر نتائج ملموسة على الأرض. في حال عدم التراجع في أعداد القادمين، أو الأسوأ، إذا سُجلت زيادة جديدة، فإن “اتفاق ماكرون – ستارمر” سيتحوّل من مكسب سياسي إلى خطأ إستراتيجي يُضاف إلى لائحة الإخفاقات التي قد تهدد ثقة الناخب البريطاني.
استعادة الدفء أم ترميم فوق حقل ألغام؟
بالنظر إلى أبعاد الزيارة، يمكن القول إن الرمزية السياسية انتصرت على واقعية التنفيذ. عادت الأعلام لترفرف، وعاد ماكرون إلى باريس بتفاهمات محسوبة، لكن الطريق طويل قبل أن تُعاد صياغة العلاقة الفرنسية – البريطانية على أسس متينة.
فـ”اتفاق القنال” يمثل خطوة رمزية نحو تطبيع العلاقات التي أفسدها “البريكست”، لكنه ليس ضمانة لتغيير جوهري في السياسات. ولعلّ دروس التاريخ تقول إن العلاقات بين باريس ولندن، وإن بدت دافئة أمام الكاميرات، تظل دائمًا على حد السكين حين تتعارض المصالح الجوهرية.