تقف تونس اليوم على مفترق طرق اقتصادي، وهي في موقع يمكن أن يتحول من مجرد بلد ذي طموحات محدودة إلى فاعل إقليمي له وزنه. هذا التحول ليس حلمًا مستحيلًا، بل ممكن وواقعي إذا تم استغلال الإمكانيات الكامنة في البلاد بطريقة ذكية ومدروسة. فبين المقومات الطبيعية والبشرية، والموقع الجغرافي المميز، والقطاعات الحيوية التي يمكن إعادة إحيائها، تتوفر لتونس فرصة حقيقية لصياغة نموذج اقتصادي قادر على التموقع في عالم يتغير بسرعة.
مجتمع فتي مليء بالطاقات
من بين أهم الأصول التي تمتلكها تونس، يبرز المجتمع الفتي الذي يمثل موردًا استراتيجيًا لا يقدَّر بثمن. فالشباب التونسي يشكل نسبة كبيرة من السكان، ويتمتع بمستوى تعليمي مقبول مقارنة بدول الجوار، كما أن فئة واسعة منه تملك روح المبادرة والابتكار، لا سيما في ميادين التكنولوجيا، والصناعات الإبداعية، والاقتصاد الرقمي.
رغم التحديات المرتبطة بالبطالة، إلا أن هذه الطاقات غير المستغلة يمكن أن تتحول إلى رافعة تنموية حقيقية إذا ما تم توجيهها، تأطيرها، وخلق بيئة تمكّنها من التعبير عن إمكاناتها. دعم ريادة الأعمال، وتوسيع التكوين المهني، وربط التعليم بسوق الشغل، كلها عناصر أساسية لتحويل هذا المورد البشري إلى محرك فعّال للنمو الاقتصادي والابتكار المجتمعي.
إعادة إحياء قطاع السياحة
لطالما شكلت السياحة أحد أعمدة الاقتصاد التونسي، لكن هذا القطاع شهد تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، نتيجة لأسباب أمنية وهيكلية. مع ذلك، لا يزال قطاع السياحة يمتلك قدرة هائلة على الإقلاع من جديد، إذا ما تم تجاوز النموذج التقليدي القائم على “السياحة الرخيصة”، والتحول نحو منتوج سياحي نوعي ومتعدد الأبعاد.
تونس تمتلك مقومات سياحية غنية تتنوع بين المواقع الأثرية ذات القيمة الحضارية العالية مثل قرطاج والجم، والمناظر الطبيعية الصحراوية والبيئية الفريدة في الجنوب، إضافة إلى السواحل الممتدة على طول البلاد. كما يمكن لتونس أن تبرز كوجهة رائدة في السياحة الصحية والاستشفائية بفضل توفر كفاءات طبية عالية وتكلفة تنافسية.
إعادة النهوض بهذا القطاع تتطلب تطوير البنية التحتية، وخاصة النقل الجوي والمطارات، وتحسين نوعية الخدمات الفندقية، مع إدماج الرقمنة في منظومة الحجز والترويج. كما أن الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص تبقى مفتاحًا أساسيًا لإعادة رسم ملامح سياحة تونسية عصرية وجاذبة.
فتح الاقتصاد أمام رؤوس الأموال الأجنبية
الاستثمار الأجنبي ليس فقط وسيلة لضخ رؤوس الأموال، بل هو أداة فعالة لنقل التكنولوجيا، وخلق مناصب شغل، وتعزيز التنافسية. فتح الاقتصاد التونسي أمام المال الأجنبي يتطلب أولًا تحسين مناخ الأعمال من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير الشفافية، ومحاربة الفساد.
إلى جانب ذلك، فإن التركيز على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل التكنولوجيا، الصناعات الدوائية، والطاقة المتجددة، يمكن أن يجعل من تونس بيئة استثمارية جذابة للمستثمرين الدوليين. البلاد تتمتع بكفاءات بشرية ذات مستوى جيد، وشباب مبدع يمكن تأطيره لدخول عالم الرقمنة وريادة الأعمال، لا سيما في إطار بيئة تشريعية محفزة.
الموقع الجغرافي كعنصر استراتيجي
من أبرز مقومات تونس التي يمكن أن تعزز من موقعها الاقتصادي هو موقعها الجغرافي الفريد. فهي تقع على مرمى حجر من أوروبا، وتطل على أهم ممرات النقل البحري في المتوسط، كما أنها قريبة من العمق الإفريقي، ما يجعل منها نقطة ربط مثالية بين القارات.
انضمام تونس إلى منطقة التبادل الحر الإفريقية يشكل بدوره فرصة كبرى للولوج إلى أسواق ضخمة، وهو ما يعزز من جاذبيتها كمركز لوجستي وإنتاجي. في هذا السياق، يمكن الاستثمار في تطوير المناطق الصناعية والمناطق الحرة القريبة من الموانئ، لجعلها منصات تصدير خاصة في مجالات الصناعات الخفيفة والتحويلية.
تعزيز الصناعات التحويلية وتثمين الإنتاج المحلي
من المهم أن تتحول تونس من مجرد مصدر للمواد الخام إلى بلد يضيف قيمة عبر الصناعات التحويلية. هذا التوجه يمكن أن يشمل القطاع الفلاحي، حيث يمكن تحويل منتجات مثل زيت الزيتون والتمور إلى منتوجات مصنعة موجهة للتصدير بأسعار أعلى.
كما أن الصناعات الميكانيكية والإلكترونية الخفيفة، والتي عرفت تطورًا ملحوظًا في بعض المناطق، يمكن أن تمثل قاطرة للنمو الاقتصادي إذا ما تم توسيعها وإدماجها ضمن سلاسل القيمة العالمية. تعزيز هذه الصناعات يتطلب توفير تكوين مهني متخصص، وتسهيل الولوج إلى التمويل، وتشجيع الشراكات مع شركات دولية تبحث عن مواقع إنتاج منخفضة التكلفة وقريبة من أوروبا.
ماتحتاجه تونس قبل الإمكانيات
تونس لا تفتقر إلى الإمكانيات، بل تحتاج إلى تفعيلها من خلال رؤية استراتيجية واضحة وإرادة سياسية صلبة. بين السياحة، والاستثمار الأجنبي، والموقع الجغرافي، والصناعات التحويلية، توجد قاعدة اقتصادية متينة يمكن البناء عليها.
التحول الاقتصادي المنشود لا يمر فقط عبر الخطط التقنية والإصلاحات الإدارية، بل يحتاج إلى ثقة حقيقية في قدرات البلاد وشبابها، وإلى خطاب وطني جامع يعيد الأمل ويحفز على العمل والبناء. عندها فقط، يمكن أن تتحول تونس من بلد يطمح إلى النمو، إلى بلد يصنع مستقبله ويقود التغيير في محيطه الإقليمي.