على الرغم من تقليل “رامافوزا” من التأثير المحتمل لوقف المساعدات الأمريكية لبلاده؛ إلا أن جنوب إفريقيا والقارة في خطر كبير. وقد صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأنه يريد “تعليق أيّ تمويل لجنوب إفريقيا” حتى الانتهاء من التحقيق في قانون مصادرة الأراضي، واصفًا إياه بقانون “انتهاك جسيم لحقوق الإنسان”، ومتَّهمًا حكومة جنوب إفريقيا “بمصادرة الأراضي، وإساءة معاملة فئات معينة من الناس”.
وقد دحض مسؤولون حكوميون ومنظمات المجتمع المدني في البلاد مزاعم ترامب، باستثناء (أفري فوروم)، التي يقال: إنها تقف وراء حملة ترامب التضليلية ضد جنوب إفريقيا. ويسمح قانون نزع ملكية الأراضي (على غرار قانون نزع الملكية الأمريكي) للحكومة بالحصول على الأراضي الخاصة للاستخدام العام، بشرط دفع أجور عادلة للمالكين.
وكان رد رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا محسوبًا؛ فقد صرّح بأن جنوب إفريقيا “ديمقراطية دستورية ملتزمة بسيادة القانون والعدالة والمساواة”، وبعيدًا عن المساعدات التي تتلقاها جنوب إفريقيا بخصوص “خطة الرئيس الطارئة للمساعدة في مجال مكافحة الإيدز”، والتي تمثل 17% من البرنامج الوطني لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز؛ فإن “الولايات المتحدة لم تقدم أيّ تمويل كبير آخر لبلاده”.
وعلى الرغم من جهود “رامافوزا” لتهدئة مخاوف الناس من احتمال فقدان التمويل الأمريكي؛ إلا أن الواقع مختلف تمامًا.
وللتذكير، ففي عام 2024م، منحت الولايات المتحدة جنوب إفريقيا 453 مليون دولار (8.5 مليار راند) كتمويل مباشر في إطار خطة رئيس جنوب إفريقيا الطارئة للمساعدة في مجال مكافحة الإيدز، والتي كان من المتوقع أن تصل إلى 439 مليون دولار (8.2 مليار راند) خلال العام الجاري 2025م.
إقرأ أيضا : هل سيُغيِّر أنبوب الغاز قواعد اللعبة في إفريقيا؟
عطفًا على ذلك، فقد استثمرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ما يقرب من 60 مليون دولار في المبادرات الرامية إلى معالجة تغيُّر المناخ، وتعزيز المساواة بين الجنسين، ومنع العنف داخل المجتمعات المحلية، والدفاع عن المبادئ الديمقراطية. وهذا المبلغ لا يُستهان به بالنسبة للعديد من المنظمات غير الحكومية في جنوب إفريقيا والتي تعتمد على المانحين الدوليين وفي صدارتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
من جهة أخرى، فقد أعرب جون ستينهويسن، زعيم التحالف الديمقراطي، وهو حزب المعارضة التاريخي الرئيسي في جنوب إفريقيا وعضو في حكومة الوحدة الوطنية (GNU) منذ عام 2024م، عن شعوره بالقلق. وأشار في تصريحات له -يوم 4 فبراير 2025م-، إلى أنه سيكون من “المأساوي” أن تفقد جنوب إفريقيا هذا التمويل، ودعا حكومة الوفاق الوطني إلى إجراء حوار مع ترامب لتوضيح الوضع.
تجميد جميع المساعدات الأجنبية:
يأتي قرار تعليق هذه الأموال بعد أسبوع فقط من إعلان ترامب تجميد جميع المساعدات الأجنبية، وخاصةً التي تقدمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وما يزال العالم يكافح من أجل الآثار المترتبة على هذا الإعلان، لا سيما بالنسبة للبلدان الإفريقية التي تعتمد على هذا الدعم منذ عقود. وتتفاقم هذه الأزمة بسبب التفكيك السريع لوكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة خلال عطلة نهاية الأسبوع.
جدير بالذكر أنه بحلول عام 2022م، تلقت جميع البلدان الإفريقية حزمة مساعدات أمريكية تتراوح قيمتها بين 125 و500 مليون دولار أمريكي.
وعلى الرغم من أن محكمة فيدرالية أمريكية منعت التجميد مؤقتًا الأسبوع الماضي، إلا أن ترامب يحاول تجاوز سلطته التنفيذية، فقد دعا إيلون ماسك إلى التخلص من جميع نفقات الحكومة الفيدرالية “غير الضرورية”.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، تم وضع اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في إجازة إدارية بسبب منعهما أعضاء إدارة الفعالية الحكومية الجديدة (وهي إدارة غير رسمية تابعة للحكومة الأمريكية) التي يديرها “ماسك”، من الوصول إلى أنظمة الكمبيوتر.
بعد ذلك بوقت قصير، توقف الموقع الإلكتروني للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عن العمل. وتم إغلاق مقر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في واشنطن، ووفقًا لشبكة “سي إن إن”، فقد أعلن “ماسك” أن الوكالة “منظمة إجرامية […] لا يمكن إصلاحها” ويجب “إغلاقها”.
يرى ترامب وماسك أن أشكال المساعدات الحيوية -ليس فقط لجنوب إفريقيا بل لبقية دول العالم- بمثابة تبذير في الإنفاق.
وعلى الرغم من المخاوف بشأن عواقب إعادة انتخاب ترامب على جنوب إفريقيا، في سياق عالمي يتسم بتصاعد الاستبداد وتراجع حقوق الإنسان؛ إلا أن أحدًا لم يكن يتصور أن جنوب إفريقيا ستكون مستهدفة. بل لم يكن أحد يتصور أن الولايات المتحدة ستقطع تمويلها بالكامل، ولا حتى محرري “مشروع 2025م” المثير للجدل لليمين الأمريكي المتطرف.
في السابق، لم يقم ترامب بزيارة إفريقيا خلال فترة ولايته الأولى، وتصريحاته المستخفة بالقارة وجهله بالواقع الجنوب إفريقي والإفريقي ليس مستغربًا.
ويتضح عدم اهتمام ترامب بإفريقيا من خلال نشرة إخبارية نشرها وزير الخارجية الجديد ماركو روبيو. وتتحدث النشرة التي تحمل عنوان “إعادة السياسة الخارجية الأمريكية إلى الوطن: النهوض بالمصالح الأمريكية أولًا”، عن بناء “نصف كرة غربي مزدهر”؛ من خلال تفضيل العلاقات الأمريكية مع أمريكا الوسطى والجنوبية على حساب إفريقيا وبقية العالم.
ما تأثير ذلك على إفريقيا؟
وفقًا لبيانات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة الخارجية الأمريكية لعام 2022م؛ فقد تلقت جميع البلدان الإفريقية مساعدات أمريكية بأشكال مختلفة تتراوح بين 125 مليون دولار و500 مليون دولار. ومن شأن الانسحاب الكامل أو الجزئي أن يعيق التقدم الاقتصادي، ويزيد من حدة الفقر والأزمات الإنسانية.
وقد عرضت الولايات المتحدة تقديم المساعدة المالية والتقنية للبلدان التي تواجه تحديات أمنية متزايدة. ففي عام 2024م، شكَّلت برامج دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم والأمن 10% من حزمة المساعدات التي قدَّمتها وكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة، والتي تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار إلى إفريقيا. وأكبر المستفيدين من المساعدات غير الإنسانية هم نيجيريا (622 مليون دولار)، وموزمبيق (564 مليون دولار)، وتنزانيا (560 مليون دولار)، وأوغندا (559 مليون دولار)، وكينيا (512 مليون دولار).
ويؤدي قطع هذا التمويل إلى زيادة مخاطر انتهاكات حقوق الإنسان، وعدم ثقة المواطنين بحكوماتهم، ويُعرّض البلدان إلى تنامي التطرف العنيف. وتستغل الجماعات الإرهابية استياء المواطنين، وانتهاكات قوات الأمن، والفقر، والإقصاء، كأدوات لتجنيد أعضاء جدد في صفوفها. ولذا فإن العواقب المحتملة مثيرة للقلق، خاصة في بلدان غرب إفريقيا والصومال وموزمبيق؛ حيث تقف الجماعات المسلحة وراء العنف واسع النطاق.
ما تداعيات الانسحاب على الولايات المتحدة نفسها؟
من شأن الانسحاب الأمريكي الجزئي أو الكلي من إفريقيا أن يترك فجوة كبيرة، مما يسمح للقوى الأخرى مثل الصين وروسيا -التي تزيد بالفعل من نفوذها في القارة- بتوسيع نطاق نفوذها. وسيؤدي ذلك إلى تقييد وصول الولايات المتحدة إلى الأسواق الناشئة، وستخسر فرصًا تجارية في منطقة مزدهرة. كما أنه سيشجع على تطوير سياسات تتعارض مع المصالح الأمريكية.
وقد يؤدي الانسحاب أيضًا إلى زيادة المخاطر على أمن الولايات المتحدة، ويخلق فراغًا يمكن أن يستغله المتمردون ويُعرِّض أمن الأمريكيين في جميع أنحاء العالم للخطر. ومن شأن التداعيات الناجمة عن خفض المساعدات الصحية والإنسانية أن تُغذِّي الشعور بالتخلي عن الولايات المتحدة وتدهور العلاقات الدبلوماسية على المدى الطويل.
وتتعارض العديد من هذه المخاطر مع مصالح الولايات المتحدة، خاصةً في ظل استمرار التهديد الإرهابي في الصومال؛ حيث تُعزّز حركة الشباب صلاتها مع الحوثيين في اليمن.
ومن شأن انسحاب الولايات المتحدة من إفريقيا أن يُوقف مبادرات التنمية الحيوية، ويزيد من عدم الاستقرار والفقر، ويعطل التحالفات الجيوسياسية. وسوف تضعف قدرة أمريكا على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن نفوذها في إفريقيا ومكانتها في العالم.