في خطوة فاجأت الأوساط السياسية والدبلوماسية، أقدمت حكومة أسامة حماد، المكلفة من مجلس النواب الليبي والمتمركزة في شرق البلاد، على إلغاء زيارة مرتقبة لوفد أوروبي رفيع المستوى إلى مدينة بنغازي.
الوفد الذي كان يضم وزراء داخلية كل من إيطاليا، واليونان، ومالطا، ومفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الهجرة، كان من المنتظر أن يبحث قضايا شائكة تخص الهجرة غير الشرعية وترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط، غير أن الزيارة أُجهضت قبل أن تبدأ، تحت مبرر تجاوز البروتوكولات المعتمدة.
حكومة حماد: «دفاع عن السيادة» أم «انغلاق دبلوماسي»؟
بررت حكومة حماد قرارها بأن الوفد الأوروبي لم يلتزم بالإجراءات التنظيمية الخاصة بالدخول والإقامة، وهو ما عدّته انتهاكاً للأعراف الدبلوماسية.
وفي حين رحّب مؤيدو الحكومة والجيش الوطني الليبي بالقرار واعتبروه موقفاً صلباً للدفاع عن السيادة الوطنية، رأت فيه أطراف أخرى خطوة غير مدروسة قد تضعف موقع الشرق الليبي على الساحة الدولية.
المحلل السياسي الليبي كامل المرعاش اعتبر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن الزيارة كانت تحمل نوايا لتعزيز التنسيق مع حكومة طرابلس على حساب سلطات الشرق، مؤكداً أن الوفد الأوروبي لا يمكنه تجاهل سيطرة الجيش الوطني على ثلثي البلاد والموانئ والحقول النفطية.
أنقرة تدخل على الخط.. واليونان تلوّح بالحدود البحرية
أحد الخيوط التي أثارت شكوك المتابعين هو التقارب الأخير بين سلطات الشرق الليبي وتركيا، وهو ما يُرجح أنه أثار قلقاً لدى دول مثل اليونان ومالطا، التي تسعى جاهدة لتحصين مصالحها البحرية شرق المتوسط.
ويعتقد البعض أن أثينا أرادت من الزيارة استباق أي تفاهمات تركية-ليبية قد تعيد خلط الأوراق في ملف الحدود البحرية الشائك.
«تصعيد غير حكيم» أم محاولة لانتزاع اعتراف دولي؟
لكن على الجانب الآخر، انتقدت شخصيات ليبية هذه الخطوة، ووصفتها بأنها تصعيد غير محسوب العواقب.
أسعد زهيو، رئيس «الاتحاد الوطني للأحزاب»، رأى أن الحكومة تسعى لفرض شرعيتها عبر مواقف إعلامية لا تستند إلى توافقات داخلية أو اعتراف دولي حقيقي، مشدداً على أن «الشرعية لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى على أسس الاحترام والتفاهم».
وأضاف زهيو أن «حكومة حماد لن تجني من هذا الموقف سوى مزيد من العزلة السياسية، في وقت تحتاج فيه ليبيا إلى جسر الثقة مع المجتمع الدولي».
بعثة الأمم المتحدة تحت النيران.. والشرخ يتعمّق
الخطوة الأخيرة لحكومة حماد لا تأتي بمعزل عن موقفها المتصلب مؤخراً تجاه المجتمع الدولي، إذ سبق وأن طالبت البعثة الأممية بمغادرة البلاد، متهمة إياها بالتدخل في شؤون البرلمان، خاصة فيما يتعلق بإدارة «صندوق التنمية وإعادة الإعمار».
رغم التوتر، يُجمع خبراء العلاقات الدولية على أن أوروبا ستتعامل بمرونة مع الأزمة، إذ قال إبراهيم هيبة، أستاذ العلاقات الدولية، أوضح أن الانقسام السياسي في ليبيا يدفع الأوروبيين إلى توزيع أوراقهم على كل الأطراف.
وقال: «لا أحد في أوروبا يريد خسارة العلاقة مع الشرق الليبي، خصوصاً مع تعاظم دوره في ملفات حساسة كالهجرة والطاقة ومحاربة الإرهاب».
خلاصة المشهد: «ليبيا الممزقة» لا تحتمل عزلة إضافية
في نهاية المطاف، تعكس هذه الحادثة عمق الأزمة الليبية وتنازع الشرعيات، حيث تتصارع حكومتان على تمثيل الدولة، وتتنازع العواصم الغربية على من تتعامل معه.
وإذا كانت حكومة حماد تسعى لفرض نفسها كطرف شرعي فاعل، فإن العلاقات الدولية لا تُبنى على الشعارات بل على المصالح والتوازنات الدقيقة.
الرسالة التي وصلت إلى العواصم الأوروبية واضحة: الشرق الليبي يريد أن يُعامل كندّ، لا كمُلحق بحكومة طرابلس. لكن يبقى السؤال: هل تملك حكومة حماد الأدوات الكافية لتحقيق هذا الهدف… أم أن قرار إلغاء الزيارة سيُسجل في خانة الخسائر السياسية؟.