أثار تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول احتمال اعتراف بلاده بدولة فلسطين اهتمامًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، وسط تساؤلات حول خلفياته وتوقيته. يأتي هذا التصريح في خضم حرب إسرائيلية مستمرة على غزة، وأمام تحولات متسارعة في المواقف الأوروبية من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
يطرح هذا الموقف الفرنسي مجموعة من التساؤلات:
هل هو رسالة ضغط موجهة لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية؟ أم أنه انعكاس لحسابات داخلية تهدف إلى تهدئة الجبهة الاجتماعية والسياسية المتوترة داخل فرنسا؟ التقرير التالي يرصد أبعاد هذا التصريح ويحاول تقديم قراءة معمقة في خلفياته وتداعياته المحتملة.
السياق العام
التصعيد العسكري في غزة والشلل الدبلوماسي
منذ أكتوبر 2023، يشهد قطاع غزة عدوانًا عسكريًا واسعًا شنته إسرائيل عقب عملية “طوفان الأقصى”. خلفت هذه الحرب آلاف القتلى والجرحى، وفاقمت الوضع الإنساني الكارثي في القطاع، وسط عجز دولي عن فرض وقف لإطلاق النار. في المقابل، لا تزال حكومة نتنياهو ترفض أي حديث عن “حل الدولتين” أو العودة إلى المفاوضات، متذرعة بحق “الدفاع عن النفس”.
هذا الجمود السياسي أفرز نوعًا من الفراغ الدبلوماسي، فتح الباب أمام مبادرات أوروبية متفرقة تهدف إلى إحياء المسار السياسي، ولو عبر اعتراف أحادي بدولة فلسطين.
تحول في المزاج الأوروبي
في موازاة ذلك، بدأت عدة دول أوروبية تعبر عن استعدادها لإعادة النظر في سياساتها التقليدية تجاه القضية الفلسطينية. دول مثل إسبانيا، بلجيكا، إيرلندا، وسلوفينيا، تحدثت صراحة عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين. يأتي هذا التوجه الجديد كرد فعل على السياسات الإسرائيلية المتصلبة، وعلى خلفية موجة التعاطف الشعبي المتزايدة مع الفلسطينيين في مختلف العواصم الأوروبية.
الدوافع الفرنسية: بين السياسة الداخلية والخارجية
الغضب الشعبي في الداخل
شهدت فرنسا، منذ بداية الحرب على غزة، موجات احتجاجية واسعة شملت مظاهرات ومسيرات حاشدة في عدة مدن فرنسية. طالبت هذه التحركات الحكومة الفرنسية باتخاذ موقف واضح وحازم ضد الجرائم الإسرائيلية، ووجهت انتقادات حادة لصمت الإليزيه أو تردده.
تأتي هذه الموجة من الاحتجاجات في سياق اجتماعي متوتر أصلًا، يتسم بتراجع الثقة في الطبقة السياسية، وتنامي الحساسيات الهوياتية، خاصة في الأحياء التي تضم جاليات عربية ومسلمة. وفي هذا السياق، يُنظر إلى تصريح ماكرون على أنه محاولة لامتصاص هذا الغضب المتنامي، وتقديم إشارة رمزية إلى التوازن في السياسة الخارجية الفرنسية.
الضغط المتصاعد من اليمين المتطرف
في المقابل، يخوض ماكرون معركة سياسية على الجبهة المقابلة مع التيار اليميني المتطرف، الذي يستغل هذه الأزمة لتعزيز خطابه المعادي للهجرة والإسلام السياسي. وبالتالي، فإن أي انزلاق في الخطاب أو المواقف قد يُستغل انتخابيًا ضد ماكرون في الانتخابات الأوروبية المقبلة.
التصريح حول الاعتراف بدولة فلسطين، من هذا المنظور، يبدو محاولة لتمرير رسالة مزدوجة: التفاعل مع الرأي العام المتعاطف مع الفلسطينيين، دون استفزاز التيارات المحافظة أو الدخول في مواجهة مباشرة مع اللوبيات المؤيدة لإسرائيل.
البعد الدبلوماسي والاستراتيجي
رسالة موجهة إلى تل أبيب
من ناحية السياسة الخارجية، يرى محللون أن تصريح ماكرون يمثل رسالة ضغط دبلوماسية موجهة إلى الحكومة الإسرائيلية، في وقت تزداد فيه الانتقادات الغربية لطريقة تعاطيها مع الحرب على غزة ورفضها الصريح لأي تسوية سياسية.
الاعتراف بدولة فلسطين، أو حتى التهديد به، يُعد تحولًا نوعيًا في الموقف الفرنسي، وقد يُستخدم كوسيلة لفرض ضغوط غير مباشرة على نتنياهو، من خلال إظهار أن الرفض المتواصل لحل الدولتين قد يؤدي إلى ردود فعل سياسية ملموسة من شركائه الدوليين.
التنسيق الأوروبي وحدود المبادرة
فرنسا لا تتحرك في فراغ. مواقفها مرتبطة بحسابات داخل الاتحاد الأوروبي، وبالعلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة. لذلك، فإن أي خطوة فرنسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية ستكون على الأرجح منسقة مع شركاء أوروبيين، بهدف إعطائها مشروعية جماعية، وتخفيف المخاطر الدبلوماسية المرتبطة بها.
ومع أن ماكرون لم يعلن عن اعتراف رسمي بعد، إلا أن إدراج هذه الإمكانية في الخطاب السياسي الرسمي يمثل تطورًا لافتًا، يُعبّر عن نفاد الصبر الأوروبي من مراوحة العملية السياسية مكانها.
خلاصة تحليلية
تصريحات الرئيس الفرنسي حول إمكانية الاعتراف بدولة فلسطين تعكس حالة من إعادة التموضع السياسي والدبلوماسي، في ظل تغير موازين القوى على الأرض، وتزايد الضغوط الشعبية والمؤسساتية في الداخل الفرنسي.
فرنسا تسعى من خلال هذا التصريح إلى تحقيق مجموعة أهداف متوازية:
-
احتواء الغضب الشعبي في الداخل.
-
توجيه رسالة تحذيرية إلى الحكومة الإسرائيلية.
-
الحفاظ على صورة فرنسا كفاعل دبلوماسي متوازن في الشرق الأوسط.
-
مجاراة التحولات الجارية داخل الاتحاد الأوروبي.
لكن، وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة على المستوى الرمزي، إلا أن الاعتراف الرسمي يظل مرتبطًا بتوازنات أكبر، تشمل التنسيق مع واشنطن ومراعاة الاعتبارات الأمنية والسياسية الداخلية. ما يعني أن باريس ستواصل التلويح بهذه الورقة، دون أن تحسم أمرها بشكل نهائي، إلى حين تبلور ظرف دولي وإقليمي يسمح باتخاذ مثل هذا القرار الحاسم.