أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولاين ليفيت، أن حكومة إسرائيل قد وافقت على مقترح جديد قدّمه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، يقضي بوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، يترافق مع تبادل للأسرى وضمان دخول مساعدات إنسانية. هذه المبادرة، رغم أنها تبدو مختلفة عن سابقاتها، إلا أنها تحمل في طياتها عناصر غموض تفتح المجال لتأويلات متعددة، خصوصاً في ظل التباين الشديد بين مطالب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
جوهر المقترح يقوم على ثلاثة محاور أساسية: إطلاق سراح الرهائن، السماح بدخول المساعدات الإنسانية، وضبط الأنشطة العسكرية الإسرائيلية. وبحسب ما رشح من تفاصيل، فإن إسرائيل تركز في المرحلة الأولى على إطلاق سراح عشرة أسرى أحياء مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى تسليم جثث 18 أسيراً متوفياً، على أن يجري التفاوض على البقية لاحقاً. في المقابل، يركّز الجانب الفلسطيني، وتحديداً “حماس”، على ضمان وقف الهجمات العسكرية، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وفتح المعابر لإدخال المساعدات دون شروط.
الجانب الأخطر في المقترح هو ما يصفه مراقبون بـ”الهندسة الميدانية” لوقف إطلاق النار، حيث لا يشترط انسحاباً فورياً وشاملاً من القطاع، بل يعيد ترتيب انتشار القوات الإسرائيلية في شمال غزة وممر نتساريم، في انتظار إطلاق دفعات جديدة من الأسرى، ليتبع ذلك إعادة انتشار في الجنوب، وفق خرائط تُحدد لاحقاً. هذا الغموض أعاد إلى الأذهان تجارب سابقة تم فيها التحايل على الهدنات من خلال استمرار الاحتلال بحجج فنية ولوجستية، مما يجعل الجانب الفلسطيني متشككاً في جدية النوايا.
ما زاد من تعقيد الموقف أن المقترح الحالي جاء بعد وساطة غير مباشرة قادها رجل الأعمال الأمريكي بشارة بحبح، والتي أثمرت عن موافقة “حماس” على اتفاق سابق تضمن انسحاباً حتى حدود 2 آذار/مارس 2025، مع تعهد أمريكي بمنع استئناف الحرب في حال فشلت المفاوضات، ودخول المساعدات وفق بروتوكولات متفق عليها سابقاً. غير أن المبعوث الأمريكي أدخل تعديلات جوهرية على الاتفاق السابق، ما أثار حفيظة “حماس”، ودفع باسم نعيم، أحد قادتها، إلى وصف الرد الإسرائيلي بأنه “تكريس للاحتلال واستمرار للقتل والمجاعة”، وإن أكد في الوقت ذاته استعداد الحركة لدراسة الاقتراح “بكل مسؤولية وطنية”.
من الجانب الإسرائيلي، يجد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه بين نارين: القبول باتفاق قد يُنظر إليه من حلفائه في أقصى اليمين على أنه تراجع، أو مواجهة انسحاب شركائه من الائتلاف الحكومي، ما يعني تفكك الحكومة وفتح الباب أمام انتخابات مبكرة، لا تضمن له ولا لحزبه عودة مريحة إلى الحكم. وفي هذا السياق، تبرز أسماء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، كأبرز المعارضين لأي تهدئة يمكن أن تُفسر بأنها اعتراف ضمني بفشل الخيار العسكري أو تنازل عن المبادئ التوسعية التي يتبنونها.
غير أن المقترح لا يلبّي فقط حاجة نتنياهو لمخرج مؤقت، بل يخدم أيضاً التحول الكبير في السياسة الخارجية الأمريكية. إدارة دونالد ترامب، التي رفعت في وقت سابق منسوب تطلعاتها عبر أفكار غير واقعية مثل “تحويل غزة إلى ريفييرا”، وجدت نفسها مضطرة للتراجع والتعاطي ببراغماتية مع الواقع. ويبدو أن هذا التراجع جزء من استراتيجية أوسع تقوم على إعادة تموضع واشنطن في الشرق الأوسط، كما ظهر في تحوّل موقفها من إيران، وإعادة قنوات التنسيق مع الحوثيين، وزيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج، التي هدفت إلى تثبيت أجندة “الاستقرار الإقليمي”.
من هذا المنظور، يبدو أن المقترح الأمريكي يسعى إلى دمج إسرائيل في مشروع إعادة ترتيب المنطقة، بما في ذلك الدفع نحو إخراج “حماس” من المعادلة الفلسطينية، مقابل فتح آفاق التطبيع مع الدول العربية. وهي مقايضة غير معلنة، لكنها تلقي بظلالها على كل تحرك دبلوماسي أمريكي في الوقت الراهن.
ومع ذلك، يبقى المشهد مفتوحاً على احتمالات متناقضة. فمن جهة، قد يُشكّل الاتفاق متنفساً مؤقتاً لغزة، ويمنح “حماس” فرصة لاستيعاب الضغوط الدولية وإعادة ترتيب أوراقها، خاصة مع تزايد الاعترافات الأوروبية المرتقبة بالدولة الفلسطينية. ومن جهة أخرى، قد يتم استخدام الاتفاق كغطاء لاستكمال الأجندة الإسرائيلية في تفريغ القطاع سياسياً، واستئناف العدوان لاحقاً من موقع أكثر راحة.
في خضم هذا التوازن الهش، تتعلق آمال المدنيين في غزة، الذين يعانون المجاعة والموت اليومي، بأي فرصة لوقف القصف واستعادة الحد الأدنى من الحياة. لكن تلك الآمال لا تزال رهينة حسابات قوى كبرى لا ترى في سكان القطاع أكثر من أوراق تفاوض في معادلة معقّدة، يكون فيها الإنسان الفلسطيني هو الضحية الدائمة.