تُشكّل المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين المحتشدين لتلقّي المساعدات الإنسانية في جنوب وادي غزة، تطورًا خطيرًا آخر في مسار العدوان المتواصل على القطاع، والذي لم يَعُد يفرّق بين أهداف عسكرية ومدنية، ولا يراعي الحدّ الأدنى من قواعد القانون الدولي الإنساني. فقد أدى القصف إلى استشهاد ما لا يقل عن 24 فلسطينيًا، بينهم خمسة انتُشلوا من تحت أنقاض منزل في حي الصبرة، إضافة إلى 19 شهيدًا سقطوا أثناء انتظارهم الحصول على المساعدات الغذائية على شارع صلاح الدين.
سياسة ممنهجة تستهدف تجويع السكان
هذا النوع من الاستهداف لا يمكن قراءته إلا في سياق سياسة ممنهجة تستهدف تجويع السكان وإخضاعهم، عبر ضرب البُنى الإنسانية التي تُشكّل الحد الأدنى من مقومات البقاء، كالطعام والماء والمأوى. إن قصف مناطق توزيع المساعدات لا يعبّر فقط عن انتهاك جسيم للقانون الدولي، بل يكشف عن نية واضحة في إحداث أكبر قدر من الفوضى والرعب في صفوف المدنيين، ودفعهم إما للهروب أو الانهيار الكامل تحت وطأة الحصار والقصف.
ما يُضفي خطورة مضاعفة على هذه الهجمات هو أنها تستهدف فلسطينيين في وضع هش للغاية، أغلبهم من النازحين الذين فقدوا بيوتهم وذويهم، ويقفون في طوابير طويلة أملاً بالحصول على كيس طحين أو وجبة تسدّ رمق الجوع. هذا الواقع يجعل من استهدافهم جريمة مزدوجة: فهم ليسوا فقط خارج نطاق القتال، بل في حالة ضعف كامل، ما يضرب صميم المعايير الأخلاقية والقانونية للنزاع.
فرض رقابة دولية
من الناحية السياسية، تُحرج هذه العمليات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام الدولي، وتُصعّد من حدة الانتقادات في المحافل الحقوقية والأممية، إذ يصعب تبرير قصف مواقع مدنية مكتظة بمنتظري الإغاثة، حتى في أكثر الروايات العسكرية تحاملًا. وهي من جهة أخرى تُحرّك الدعوات المتكررة لفرض رقابة دولية على عمليات إيصال المساعدات وتوفير ممرات إنسانية آمنة تحت إشراف أممي.
أما داخليًا، فهي تترك أثرًا بالغًا في الوعي الجمعي الفلسطيني، حيث تُعمّق الشعور بأن الموت قد يأتي من كل اتجاه: في المنزل، في الطريق، أو حتى في طابور انتظار الخبز. وهذا يخلق حالة من اليأس والغضب المتصاعد، ويقوّي الخطاب المقاوم، ويرسّخ قناعة لدى السكان بأن العالم يتجاهل معاناتهم، وأن العدالة بعيدة المنال.
فشل مستمر في وقف الجرائم
إن دلالات استهداف المدنيين أثناء تلقي المساعدات لا تقتصر على البُعد الإنساني المأساوي، بل تمتد لتشمل أبعادًا سياسية، قانونية، ومعنوية تُعمّق مأساة غزة، وتضع المجتمع الدولي أمام اختبار صعب حول مدى صدقية التزامه بمبادئ حقوق الإنسان في ظل فشل مستمر في وقف هذه الجرائم أو حتى محاسبة مرتكبيها.