في تحدٍ جديد للواقع السياسي القاتم الذي يطوّق قطاع غزة، يستعد تحالف دولي من النشطاء للانطلاق في رحلة بحرية إنسانية من جزيرة صقلية الإيطالية باتجاه القطاع المحاصر، في مشهد تختلط فيه الرمزية بالإصرار، والمغامرة بالواجب الأخلاقي. المهمة، التي تُعدّ استكمالاً لمحاولة سابقة باءت بالفشل إثر تعرض إحدى سفنها لهجوم بطائرة مسيّرة قبالة ساحل مالطا، تعكس تجدد الإصرار على كسر جدار الصمت الدولي تجاه المأساة الممتدة في غزة.
لم تمر سوى أيام على الهجوم الغامض على سفينة “كونساينس”، حتى عاد النشطاء لتنظيم أنفسهم، هذه المرة باستخدام يخت أصغر حجماً يُدعى “مادلين”، ربما في إشارة إلى تقليل الظهور وتجنّب تكرار الاستهداف. لكن الرسالة كانت واضحة، تجلّت في مراسم رفع علم فلسطين في ميناء كاتانيا أمام عدسات الإعلام، ورسائل التضامن المنقوشة على جدران السفينة، تعبيرًا عن دعم لا يتراجع حتى في وجه الطائرات المسيّرة.
الرمز السياسي والإنساني في آن
ما يجعل هذه المبادرة مختلفة ليس فقط إصرار منظميها، بل أيضًا الصدى الذي تُحدثه في سياق متأزم للغاية. فالمجتمع الدولي يعيش حالة من العجز المزمن تجاه ما يحدث في غزة، حيث تتفاقم الكارثة الإنسانية نتيجة للحصار المستمر منذ سنوات، والمجازر اليومية التي تتعرض لها البنية التحتية للمدنيين. لذلك، فإن هذه القافلة، وإن كانت محدودة الموارد، تحمل معها رمزية كبرى: أن الحصار لا يجب أن يُعامل كأمر واقع لا يُمكن تجاوزه.
مشاركة الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبيرغ – حتى لو لم تُؤكد بعد مشاركتها الفعلية في الإبحار – تضفي بعداً آخر على الحدث، من خلال ربط قضية غزة بالقضايا العالمية الأخرى كالعدالة المناخية وحقوق الإنسان. إنها محاولة لبناء جسر من التضامن بين نضالات الشعوب، وإعادة غزة إلى خريطة الضمير العالمي.
ما وراء الحدث: الحصار كمعركة رمزية وعسكرية
الهجوم الأخير على سفينة “كونساينس” ليس حادثاً عرضياً، بل يحمل مؤشرات على وجود تنسيق استخباري – وربما عملياتي – لمنع هذا النوع من المبادرات من الاقتراب من الشواطئ الفلسطينية. الرسالة كانت واضحة: لا مجال لأي خرق – حتى إنساني – للحصار المفروض على غزة، والذي لم يعد فقط إجراءً أمنياً بل جزءاً من منظومة العقاب الجماعي المستمرة.
في هذا السياق، تتجاوز المبادرة حدود العمل الإغاثي التقليدي، لتتحول إلى فعل سياسي مقاوم في وجه عسكرة البحر. فكل محاولة للإبحار تُقرأ في تل أبيب كـ”تهديد استراتيجي ناعم”، خصوصًا مع تنامي التعاطف الدولي مع المدنيين الفلسطينيين في ظل تصاعد صور المجاعة والانهيار الصحي في القطاع.
الصراع على الوعي العالمي
المحاولة الجديدة تنتمي إلى نمط “الاحتجاج العالمي غير المسلح”، وهو ما بات سلاحاً ناجعاً في ظل انحياز القوى الكبرى، وعجز المؤسسات الدولية عن فرض قواعد القانون الإنساني. هؤلاء النشطاء يدركون أن سفنهم الصغيرة لن تفك الحصار عمليًا، لكنها قد تفك حالة الصمت واللامبالاة.
وربما لهذا السبب يثير تحركهم هذا القدر من القلق لدى إسرائيل، التي ترى أن المعركة اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل أيضاً في سمعة الدول، وتحت الأضواء الكاشفة للرأي العام العالمي. أي سفينة تصل أو تُستهدف، تعني قصة جديدة تنتشر على وسائل التواصل، وتحاصر الخطاب الرسمي الذي يصور غزة باعتبارها تهديداً دائماً.
أنتم لستم وحدكم
من صقلية إلى غزة، يحمل اليخت “مادلين” أكثر من مساعدات غذائية أو رمزية سياسية. إنه يحمل الإرادة العالمية المقاومة للنسيان، ورفض تهميش القضايا العادلة بحجج أمنية أو جغرافية. وبين الطائرات المسيّرة والعزائم الحيّة، يتجدد الصراع بين من يريد أن يخنق غزة بالصمت، ومن يُبحر كي يقول: “أنتم لستم وحدكم”.
وبينما تترقب العيون ما إذا كانت السفينة ستنجح في الإبحار، يبقى الحدث بحد ذاته تذكيراً بأن الحصار ليس قدراً، وأن مقاومته تبدأ من صوت، ومن علمٍ يُرفع على مقدمة قارب صغير.