في مشهد يعكس تصعيدًا خطيرًا في سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، شهد مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم اليوم الثلاثاء واحدة من أكثر عمليات الهدم تدميرًا منذ بدء العدوان عليه قبل 87 يومًا. الجرافات العسكرية الإسرائيلية من طراز “D10″، والتي عادة ما تستخدم في المعارك العسكرية الميدانية، لم تكن هذه المرة في مواجهة جبهة قتال، بل في مواجهة أبنية سكنية ومنازل تأوي عائلات فلسطينية لا تملك سوى ذكرياتها وجدرانها التي احتمت بها لعقود.
الاحتلال دفع اليوم بالمزيد من المعدات الثقيلة إلى عمق المخيم، مستهدفًا حارتي الجامع والمسلخ، في عملية تدمير منظمة بدأت بتهديد واضح وصريح الليلة الماضية، حين أعلنت سلطات الاحتلال نيتها هدم 19 بناية تضم أكثر من 50 وحدة سكنية. مهلة الساعتين التي منحتها قوات الاحتلال صباحًا لإخلاء المنازل، لم تكن كافية إلا لإنقاذ بعض المقتنيات الشخصية، في حين تركت الأسر منازلها وهي تدرك أن العودة إليها لم تعد ممكنة.
الضحايا هذه المرة لم يكونوا فقط تحت الأنقاض، بل فوقها أيضًا. أكثر من 18 عائلة فلسطينية خسرت منازلها، من بينها عائلات غنام، عليان، خليفة، عمر، شحادة، أبو جيش، عقل، جرار، قرعاوي، السايس، نجار، أبو صلاح، وصالح. هذه الأسماء لا تُمثّل مجرد أُسر، بل ذاكرة حية لمخيم يحمل في جدرانه تاريخًا طويلًا من المعاناة واللجوء والصمود.
تدمير البيوت لم يكن الحد الوحيد لهذا العدوان، فالمواطنون الذين حاولوا العودة لمنازلهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تعرضوا للمضايقات والتنكيل من قبل الجنود الذين انتشروا في أزقة المخيم، واحتجزوا عددًا من الشبان واستجوبوهم ميدانيًا في مشهد أقرب إلى الاجتياح منه إلى عملية “أمنية محدودة”.
سياسة الهدم التي تعتمدها إسرائيل في المخيمين – نور شمس وطولكرم – ليست وليدة اليوم، لكنها تشهد تصعيدًا لافتًا في الأسابيع الأخيرة. إذ كانت قوات الاحتلال قد أخطرت الخميس الماضي بنيتها هدم 106 بنايات سكنية، من بينها 58 في مخيم طولكرم و48 في نور شمس. ومنذ الأمس، بدأت الجرافات فعليًا في تنفيذ تلك التهديدات، حيث تم هدم 15 وحدة سكنية في حارة المنشية وحدها، تعود لعائلات مثل أبو حرب، العلاجمة، عبد الله، وشحادة.
النتائج الإنسانية لهذه السياسات كارثية بكل المقاييس. النزوح القسري طال حتى الآن أكثر من 4200 عائلة، بما يعادل 25 ألف مواطن، وجدوا أنفسهم بلا مأوى في مشهد يعيد إلى الأذهان النكبة الأولى التي هجّرت الفلسطينيين من ديارهم عام 1948. حتى اللحظة، تم تدمير 396 منزلاً بشكل كامل، وأكثر من 2500 بشكل جزئي، مع إغلاق شبه كامل لمداخل ومخارج المخيمين، وسط حصار خانق وإغلاق بالساتر الترابي.
الهدف من هذه الإجراءات، كما يبدو من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ومن طبيعة العمليات العسكرية، لم يعد محصورًا في ملاحقة ما تسميه إسرائيل “خلايا مسلحة”، بل أصبح مشروعًا مفضوحًا لإعادة هندسة المخيمات الفلسطينية ديموغرافيًا، وتحويلها إلى مناطق غير قابلة للحياة، وبالتالي دفع سكانها إلى مغادرتها تحت وطأة العجز واليأس.
رئيس اللجنة الشعبية لمخيم نور شمس، نهاد الشاويش، وصف ما يجري بأنه “جريمة بحق الإنسان والمنازل وكل شيء في المخيم”، مؤكدًا أن الاحتلال يعمل على تفريغ المخيم من سكانه تحت غطاء أمني، وأنه لم يكتفِ بالهدم، بل أحرق بعض البيوت ودمر أخرى بشكل ممنهج. وذهب الشاويش إلى أبعد من ذلك حين اعتبر أن الاحتلال يسعى لتحويل المخيم إلى “بيئة طاردة لا تصلح للعيش”، في إطار سياسة تهجير قسري مغلفة بأدوات عسكرية.
الرسالة التي نقلها الشاويش إلى الفلسطينيين والمجتمع الدولي واضحة: “العودة إلى المخيم حق مقدس”. ودعا إلى حراك شعبي ووطني شامل تحت عنوان وقف الجرائم ضد المخيمات، وممارسة ضغط سياسي وإنساني حقيقي على المجتمع الدولي لإجبار إسرائيل على وقف هذا النهج التدميري.
لكن واقع الحال يشير إلى أن المجتمع الدولي لا يزال متواطئًا أو عاجزًا. إذ لم يصدر حتى الآن أي رد فعل حازم من الهيئات الدولية، رغم ما تمثله عمليات الهدم والإخلاء من انتهاك صارخ للقانون الدولي، وتحديدًا اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري وتدمير الممتلكات في الأراضي المحتلة.
في ظل هذا الصمت، يجد الفلسطينيون أنفسهم مرة أخرى وحدهم في مواجهة آلة الاحتلال، التي لا تتورع عن تحويل المخيمات من رموز للجوء والهوية إلى ساحات حرب مفتوحة، دون حساب أو رادع. لكن، كما في كل مرة، تُظهر المخيمات رغم الدمار إصرارها على البقاء، وتعيد تأكيد حقيقتها الأصيلة: أنها ليست مجرد مساكن مؤقتة، بل معاقل للصمود والكرامة الوطنية.