في قطاع غزة، بات السعي وراء لقمة العيش مغامرة محفوفة بالموت، بعدما تحوّلت نقاط توزيع المساعدات الإنسانية إلى ساحات للقتل الجماعي، في استهداف ممنهج من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، يكشف عن وجه آخر من أوجه المعاناة اليومية التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني تحت الحصار والقصف. فالهجوم الأخير، الذي أفادت به وسائل الإعلام الفلسطينية وأسفر عن مقتل 80 شخصاً كانوا في انتظار الحصول على مساعدات، يعكس تحول المجاعة إلى أداة حرب، والجوعى إلى أهداف عسكرية.
ترهيب السكان وتهجيرهم قسراً
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها تجمعات الفلسطينيين الباحثين عن الطعام والنقطة الإنسانية الوحيدة المتبقية في حياتهم اليومية إلى القتل، إذ تؤكد وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» أن أكثر من 100 شهيد سقطوا منذ أواخر مايو أثناء انتظارهم عند نقاط التوزيع، فيما تُسجل الأمم المتحدة بقلق متزايد تصاعد الهجمات على تلك النقاط، وتربط بينها وبين سياسة إسرائيلية متعمدة لترهيب السكان وتهجيرهم قسراً، ضمن ما بات يُنظر إليه على نطاق واسع كأحد أوجه «التطهير العرقي» في غزة.
اللافت في التطورات الأخيرة هو أن الاستهداف بات مباشراً وموثقاً، وأنه لا يتم خلال تبادل إطلاق النار أو في سياق عمليات عسكرية، بل خلال فترات توزيع المساعدات، حيث يقف الناس حفاة جياعاً في طوابير طويلة تحت الشمس لساعات، فقط ليتحولوا إلى أهداف لرصاص قناص أو شظايا غارة مفاجئة. ففي صباح الأحد وحده، وثّقت «وفا» مقتل ثلاثة فلسطينيين وإصابة آخرين خلال انتظارهم المعونات الغذائية في منطقتي محور نتساريم وسط القطاع وخان يونس جنوبه.
توثيق الاستهداف الممنهج لنقاط الإغاثة
هذا التصعيد يفاقم أزمة إنسانية خانقة أساساً، حيث تشير منظمات إغاثة إلى أن أكثر من نصف سكان غزة مهددون بالمجاعة، في وقت لم تعد تدخلات المجتمع الدولي كافية أو فعالة، سواء على مستوى الإغاثة أو على مستوى الضغط السياسي. ويزداد الإحباط الشعبي عندما تكون المعونات – التي يفترض أن تكون محمية بموجب القانون الدولي الإنساني – سبباً في سقوط شهداء، بدلاً من أن تكون شرياناً للحياة.
من زاوية أخرى، فإن هذا النمط من الاستهداف يُعيد إلى الواجهة تساؤلات عن دور المجتمع الدولي، وتحديداً الأمم المتحدة، التي لم تُفعّل أدوات حماية المدنيين، رغم توثيق الاستهداف الممنهج لنقاط الإغاثة، ورغم التحذيرات المتكررة من أن حرمان السكان من الغذاء عمداً يرقى إلى جريمة حرب. فالردود تبقى في حدود التصريحات أو الإدانة، بينما تواصل قوات الاحتلال ممارساتها دون محاسبة أو ردع.
تكريس الجوع كسلاح ضغط سياسي
الضحايا الذين يسقطون يومياً لا يحملون السلاح، ولا ينتمون إلى فصائل مقاتلة، بل معظمهم من كبار السن والأطفال والنساء، الذين خرجوا من منازلهم المهدّمة أصلاً في رحلة بحث عن الطحين أو علبة حليب، ليجدوا الموت بانتظارهم. في غزة، الموت لا يأتي فقط من السماء أو عبر الدبابات، بل أيضاً من طوابير الخبز، في مشهد يختزل قسوة الحصار وعمق المأساة الفلسطينية.
بهذا المعنى، فإن ضحايا لقمة العيش لا يمكن اعتبارهم مجرد أرقام إضافية في قوائم الشهداء، بل هم الدليل الحي على أن الحرب في غزة تخطت الأهداف العسكرية إلى ما هو أخطر: تدمير مقومات البقاء، وتكريس الجوع كسلاح ضغط سياسي ووسيلة لتفريغ الأرض من سكانها. وهي سياسة لا تؤدي فقط إلى إطالة أمد المأساة، بل تُفرغ القيم الإنسانية من معناها، وتضع العالم أمام اختبار أخلاقي حقيقي لم يعد يحتمل المزيد من التجاهل أو التواطؤ بالصمت.