في زيارة رسمية تحمل أبعادًا تتجاوز المجاملات الدبلوماسية، حلّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضيفًا على العاصمة القطرية الدوحة، وسط اهتمام إقليمي بالتحول المتسارع في العلاقات بين القاهرة والدوحة، بعد سنوات من التوتر والجفاء. زيارة تأتي في سياق جديد، عنوانه الأبرز “الشراكة الاقتصادية”، وسط تفاهمات يجري العمل عليها لتفعيل حزمة استثمارات قطرية مباشرة في مصر بقيمة 7.5 مليار دولار، وهي خطوة توحي بتحول كبير في طريقة إدارة البلدين لعلاقاتهما، بعيدًا عن العناوين الأيديولوجية التي ظلت تؤطرها لعقد كامل.
لأكثر من تسع سنوات، كانت العلاقة بين مصر وقطر مثقلة بالمواقف السياسية المتباعدة. فمنذ عزل الرئيس محمد مرسي في 2013، دخلت الدولتان في خلاف صريح، بلغ ذروته بعد أن اعتبرت القاهرة أن الدوحة وفّرت الدعم السياسي والإعلامي والمالي لجماعة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة التي صنفتها الحكومة المصرية كتنظيم إرهابي. هذا الخلاف انعكس على كل المستويات، وامتد إلى المنابر الإعلامية، التي تحولت إلى ساحات مواجهة مفتوحة بين البلدين، قبل أن تبدأ مرحلة التهدئة بعد قمة العُلا في السعودية عام 2021، التي أسست لتقارب تدريجي بين قطر ودول الرباعية (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين).
ومنذ ذلك التاريخ، شهدت العلاقة بين القاهرة والدوحة سلسلة من اللقاءات والتفاهمات، لكنها لم تكن كافية لتؤسس لتحالف صلب، بل ظلت في إطار “إعادة ترميم الثقة”. ما يميّز زيارة السيسي الأخيرة هو أنها لا تأتي فقط كبادرة حسن نية، بل تبدو وكأنها انطلاقة فعلية لمسار تعاون جديد، تفرضه الضرورات الاقتصادية أكثر مما تبرّره الحسابات السياسية.
مصر، التي تواجه تحديات اقتصادية غير مسبوقة، أبرزها تآكل احتياطاتها من النقد الأجنبي، وتراجع قيمة الجنيه، وتزايد أعباء الديون، تبدو اليوم أكثر انفتاحًا على الاستثمارات الخليجية المباشرة كجزء من استراتيجية “الإنقاذ الاقتصادي”. وقطر، التي تتبنى منذ سنوات سياسة تنويع استثماراتها الخارجية، ترى في السوق المصرية فرصة استراتيجية كبيرة، خاصة في قطاعات مثل الطاقة، والسياحة، والتطوير العقاري، والبنية التحتية.
الحديث عن حزمة استثمارات بقيمة 7.5 مليار دولار ليس تفصيلاً، بل يعكس رغبة مشتركة في تحويل العلاقة إلى شراكة نفعية، بعيدة عن التوترات الماضية. ومن الواضح أن قطر لا تتعامل مع مصر من بوابة التعويض عن سنوات الخلاف، بل من باب الواقعية الاقتصادية، فمصر بلد محوري في المنطقة، واستقرارها يصب في مصلحة الخليج أيضًا.
كما أن القيادة المصرية باتت تنظر بعين البراغماتية إلى الدوحة، ليس فقط باعتبارها شريكًا ماليًا محتملًا، بل باعتبارها فاعلًا إقليميًا يصعب تجاهله، خاصة في ملفات مثل الغاز والطاقة والأسواق السيادية. ولعل زيارة السيسي تؤكد أن القاهرة تجاوزت إلى حد كبير عقدة “الخطاب السياسي القطري في الماضي”، وتتعامل الآن من منظور استراتيجي يتماهى مع تغير المزاج الإقليمي العام، الذي لم يعد يعطي الأولوية للصراعات الأيديولوجية.
ورغم أن العلاقة لم تصل بعد إلى مستوى التحالف الكامل، فإن التطورات تشير إلى توجه واضح نحو تحييد الملفات الخلافية السابقة، وفي مقدمتها ملف جماعة الإخوان، التي لم تعد تحضر في الخطاب العلني بين الطرفين، وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا على “السكوت مقابل الشراكة”. وهذا النوع من التفاهمات يُظهر إلى أي مدى تغيرت معادلات الإقليم، حيث باتت المصالح الاقتصادية تتصدر حسابات العواصم.
لكن السؤال يبقى: هل هذا التقارب قابل للاستدامة؟
الإجابة تتوقف على مدى نجاح الجانبين في تفعيل الاتفاقات الاستثمارية على الأرض، ومدى قدرتهما على إدارة الملفات الخلافية المتبقية بصمت واحترافية. فإذا ما أثبتت قطر أنها شريك جاد ومستقر في دعم الاقتصاد المصري، وإذا التزمت القاهرة بسياسات تُطمئن المستثمرين القطريين، فقد نكون فعلاً أمام تحول عميق في العلاقة، يؤسس لمرحلة عنوانها “الاقتصاد أولًا، والسياسة لاحقًا”.
في النهاية، قد لا يكون الماضي قد طُوي بالكامل، لكنه بات مؤجلًا على الأقل. والرهان الآن هو على قدرة البلدين على استثمار هذا التقارب، لا فقط لإنقاذ اقتصاد مأزوم، بل لإعادة رسم خريطة علاقات أكثر توازنًا في المنطقة، تنأى بنفسها عن الانقسام الأيديولوجي الذي عطّل فرص الاستقرار لعقد كامل.