الإصرار الإسرائيلي على مواصلة الحرب في غزة لا ينبع فقط من اعتبارات أمنية كما تروج له الحكومة، بل يرتبط بجملة من الدوافع السياسية والعسكرية العميقة، في مقدمتها الرغبة في إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي للقطاع بما يخدم مصالحها الاستراتيجية طويلة المدى. ورغم تصاعد الضغوط الدولية، وخصوصًا من الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترمب الذي عبّر عن انزعاجه من مماطلة بنيامين نتنياهو وعرقلة الوصول إلى اتفاق، لا تزال إسرائيل تتهرّب من القبول بوقف إطلاق نار شامل، مدفوعة برؤية تتجاوز مجرد الرد على هجوم 7 أكتوبر أو استعادة الرهائن.
إنجاز دبلوماسي جديد
من الواضح أن ترمب الذي يقترب من زيارة إلى الشرق الأوسط يسعى لتسجيل إنجاز دبلوماسي جديد، خاصة في ملف غزة الذي أضحى يهدد الاستقرار الإقليمي ويؤرق حلفاء واشنطن العرب، غير أن التزام نتنياهو بالحرب يبدو وكأنه يتجاوز القدرة على المناورة السياسية. التلميحات بأن ترمب يشعر بأن نتنياهو “يتلاعب به” تكشف عن أزمة ثقة حقيقية داخل التحالف الأميركي الإسرائيلي، قد تُفضي إلى ضغوط أكثر حدة من واشنطن، خاصة إن ارتفعت كلفة الحرب سياسيًا وإنسانيًا بشكل يصعب تبريره أمام الرأي العام الأميركي.
إعادة تشكيل غزة
رغم ذلك، فإن احتمالات استجابة إسرائيل لهذه الضغوط تظل ضئيلة في المدى القريب، خاصة أن الحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو تعتمد في بقائها على خطاب الاستمرار في الحرب، وتقديم نفسها كحائط صد ضد “الإرهاب”، ما يجعل التراجع عن هذا الخطاب مكلفًا داخليًا.
أضف إلى ذلك أن هناك مؤشرات قوية على وجود رغبة إسرائيلية غير معلنة في إعادة تشكيل غزة، سواء من خلال إضعاف “حماس” إلى الحد الأدنى، أو فرض ترتيبات أمنية تتيح لإسرائيل نوعًا من السيطرة غير المباشرة على القطاع.
وإذا صحّت التقديرات بأن هناك نية للاستيلاء على غزة، أو على أجزاء منها، فإن استمرار الحرب يصبح أداة لتحقيق هذه الغاية، خصوصًا في ظل الحديث عن مناطق عازلة ووجود عسكري طويل الأمد، وهو ما يُفسّر المماطلة المستمرة في كل مبادرة لوقف إطلاق النار، حتى مع تدهور الوضع الإنساني. هذا السيناريو يحمل في طياته تداعيات خطيرة، إذ سيُعيد الصراع إلى مربع الاحتلال العسكري المباشر، ويغلق الباب أمام أي أفق لتسوية سياسية، ويُضاعف التوتر في المنطقة.
ضغوط أميركية
من جانب آخر، يُثير استمرار الحرب حالة من الفوضى الأمنية والاجتماعية داخل القطاع، وهو ما تستفيد منه بعض الجهات، كما تشير مصادر من غزة إلى تصاعد الإعدامات بدوافع معيشية لا سياسية، ما يعكس حجم الانهيار الداخلي ويزيد من تعقيد المشهد.
باختصار، إسرائيل ليست بصدد إنهاء الحرب في الوقت القريب، إلا إذا واجهت ضغوطًا أميركية غير مسبوقة تقترن بتهديدات حقيقية بالمحاسبة أو خفض الدعم العسكري. وحتى ذلك الحين، يبقى استمرار العمليات العسكرية جزءًا من خطة أوسع قد تهدف ليس فقط لتحييد “حماس”، بل لإعادة رسم ملامح غزة نفسها، بما ينسجم مع رؤية إسرائيلية تُخشى تبعاتها في المدى البعيد.