تشهد العاصمة القطرية الدوحة منذ أيام مفاوضات حساسة بين الأطراف المعنية بملف قطاع غزة، في محاولة للوصول إلى تسوية جزئية تؤدي إلى وقف مؤقت لإطلاق النار وتبادل للأسرى بين إسرائيل وحركة “حماس”. ووفقًا لما تناقلته وسائل إعلام عبرية مساء السبت، فإن المسودة الأساسية للصفقة تتمحور حول إفراج متبادل يشمل عشرات الأسرى، بالتزامن مع تهدئة مؤقتة تمتد بين ستة إلى ثمانية أسابيع، وهي مدة تُعتبر حاسمة لمفاوضات أوسع قد تقود إلى وقف شامل للحرب.
جوهر الصفقة المقترحة
وفق ما أوردته هيئة البث العبرية والقناتان “12” و”13″، فإن الصفقة تتضمن إفراجًا فوريًا عن 10 أسرى إسرائيليين أحياء، ووقفًا لإطلاق النار لمدة تراوح بين شهر ونصف وشهرين، ما يعد تطورًا كبيرًا إذا ما تم التوافق عليه وتنفيذه. كما تتضمن الصفقة تقديم “حماس” قائمة بأسماء الأسرى الأحياء والأموات بعد 10 أيام من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وهي خطوة تشير إلى نية الأطراف وضع أساس شفاف لبقية المفاوضات.
على الجانب الآخر، طرحت المفاوضات مقترحًا بإفراج إسرائيل عن ما بين 200 إلى 250 أسيرًا فلسطينيًا، غير أن هذه النقطة لا تزال محل خلاف، وهي الأشد تعقيدًا في ظل تشدد الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي يواجه ضغوطًا داخلية من تيارات اليمين المتطرف لرفض تقديم أي تنازلات لحماس.
عودة مقترح ويتكوف: مبادرة مؤجلة تعود للواجهة
اللافت أن المعطيات الحالية تُعيد إحياء خطة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، والتي سبق طرحها قبل أشهر ورفضها نتنياهو حينها، بينما لم ترفضها حماس رسميًا. وتقضي خطة ويتكوف بالإفراج عن الأسرى على مرحلتين: النصف الأول مع بدء تنفيذ الاتفاق، فيما يُربط الإفراج عن الباقين بتحقيق تقدم في مفاوضات دائمة خلال فترة الهدنة.
إعادة طرح الخطة تشير إلى ضيق الخيارات أمام إسرائيل وحلفائها في ظل انسداد الأفق العسكري، وفشل حملة “الردع الشامل” ضد غزة في تحقيق أهدافها، الأمر الذي يجعل من الحلول الجزئية ذات الطابع الإنساني، مثل تبادل الأسرى، بوابة عملية لبدء التهدئة.
صلاحيات الوفد الإسرائيلي ومحدودية التحرك
رغم وجود الوفد الإسرائيلي في الدوحة واستمرار بقائه ليوم إضافي على الأقل، بحسب القناة “12”، فإن المعلومات المتسربة تفيد بأن هذا الوفد يمتلك صلاحيات تفاوضية محدودة للغاية، ويتحرك في إطار “مقترح ويتكوف” دون قدرة فعلية على اتخاذ قرارات حاسمة.
وقد كشفت تقارير عبرية أن القرار النهائي بيد نتنياهو وحده، مما يزيد من الشكوك حول جدية الحكومة الإسرائيلية في إبرام اتفاق، خاصة في ظل الضغط الإعلامي والسياسي على الحكومة من داخل إسرائيل، حيث تُوصف هذه الخطوة بأنها “رضوخ للإرهاب”.
ميدانياً: تصعيد دموي متزامن مع المفاوضات
في تناقض صارخ مع أجواء التفاوض، واصل الجيش الإسرائيلي تصعيد عدوانه على قطاع غزة، إذ أعلن يوم الجمعة عن إطلاق عملية عسكرية جديدة تحت اسم “عربات جدعون”، وبدأ بشن ضربات واسعة في شمال وجنوب القطاع، في سياق حملة تهدف، وفق هيئة البث الإسرائيلية، إلى احتلال كامل غزة.
وقد شهدت الأيام الأربعة الماضية وتيرة غير مسبوقة من المجازر، وعمليات القصف المكثف التي أودت بحياة مئات الفلسطينيين، ما دفع ناشطين ومراقبين إلى التشكيك في نوايا إسرائيل الحقيقية من هذه المفاوضات، خاصة أنها تسير بالتوازي مع تنفيذ سياسة الأرض المحروقة.
وتزامن هذا التصعيد مع جولة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في المنطقة، والذي تعهد أثناءها بـ”مستقبل أفضل” لفلسطينيي غزة و”إنهاء الجوع”، في مشهد يراه كثيرون عبثيًا، بالنظر إلى واقع الإبادة اليومية التي تُرتكب بحق المدنيين.
تحليل: فرصة محدودة وسط معادلة معقدة
الصفقة المطروحة، رغم ما تحمله من مؤشرات على إمكانية التهدئة، تواجه تحديات بنيوية تجعل من تنفيذها الكامل أمرًا صعبًا. فبين تعنت الحكومة الإسرائيلية، واشتراطات حركة حماس المتعلقة برفع الحصار وضمانات دولية، وبين الأجندات المختلفة للوسطاء (مصر، قطر، الولايات المتحدة)، تبدو التهدئة المؤقتة أقرب إلى “هدنة إنسانية موسعة” منها إلى بداية اتفاق سياسي حقيقي.
كما أن استمرار القصف وتوسيع العمليات العسكرية يقوض أي بيئة ثقة مطلوبة لإنجاح أي اتفاق، وقد يدفع حماس إلى مراجعة موقفها بشأن تقديم قوائم الأسرى أو الالتزام بالهدنة، ما لم يكن هناك تدخل دولي ضاغط وحاسم.
محطة اختبار حقيقية
في ظل الانقسام الحاد داخل المشهد الإسرائيلي، واستمرار معاناة الفلسطينيين تحت القصف والدمار، تبدو مفاوضات الدوحة الحالية فرصة ضيقة لكنها قابلة للبناء عليها إذا ما تحولت إلى مسار تفاوضي طويل الأمد برعاية دولية جادة. أما إذا استمرت إسرائيل في الجمع بين التصعيد الميداني والمناورة السياسية، فإن مصير الصفقة لن يختلف كثيرًا عن سابقاتها التي وُلدت ميتة.
قد تكون الأيام العشرة القادمة، وهي المهلة المفترضة لتسليم قوائم الأسرى، محطة اختبار حقيقية لنية الأطراف وقدرتها على التقدم نحو هدنة طويلة الأمد، وربما نحو إنهاء الحرب التي تجاوزت كل الحدود الأخلاقية والإنسانية.